يبحث الأنتروبلوجي المغربي عبد الله الحمودي، في حلقات يكتبها ل«المساء» من أمريكا، القضايا المغاربية والشرق الأوسطية في أجندة الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما. ويشرح كيف أن الاحتفال بفوز أوباما تعدى الحدود الأمريكية إلى إفريقيا وآسيا، مذكرا بأن الرئيس الجديد اكتفى بزيارة الكنائس والمعابد اليهودية خلال حملته الانتخابية الطويلة، بينما تجنب زيارة المساجد. ويخلص الباحث المغربي إلى أن انتخاب أوباما هو وليد الأزمة المالية التي تهز أمريكا والعالم. الحلقة (2) إننا أمام حركة، وليس مجرد حملة انتخابية؛ تمخضت عنها نتائج تهم المسائل الداخلية والخارجية لأمريكا، ومن هذه النتائج هناك الشعور والاقتناع بفشل سياسة الحروب والغطرسة والهيمنة الأحادية. لقد لمس الشعب الأمريكي الواقع الجديد المتمثل في ميلاد عالم جديد، تحدد مصيره كلمة قوات أخرى اقتصادية وعسكرية غير أمريكية تتنامى عبر السنين. وأكبر من هذه القوات الاقتصادية والعسكرية هناك قوات أخرى أدبية وثقافية، لا تنحصر في قوة الإسلام فقط؛ فكل الشعوب والمجموعات ليست مستعدة للتخلي عن هويتها الثقافية رغم ما في تلك الهويات من تعدديات وتوترات. شعوب يحركها وعي كبير بأن لا مستقبل لتلك الكيانات بدون إعادة بناء تلك الهوية بمجهود الشعوب ذاتها التي ترى فيها أصلا ومنهلا، وحصنا منيعا. لهذا رأينا الاحتفال بفوز باراك أوباما يتعدى الحدود الأمريكية إلى إفريقيا وآسيا وغيرهما. وإذا سألنا نحن أنفسنا، فإننا نجد أن حكايته صارت رمزا ل«الإنسان الآخر»، الذي دأبت القوات الأوروبية والأمريكية على وضعه في تلك المنزلة (أي منزلة الآخر) منذ ما يزيد عن خمسة أو ستة قرون. إنه رمز الإنسان الذي وضعه ذلك الترتيب دائما في مرتبة الآخر، أي مرتبة كل من هو غير أبيض الجلد بالمقياس الأوربي، ولا ينتمي إلى كيان أوروبا... فذلك الإنسان الآخر هو باقي الإنسانية الذي كان يمثل دائما أغلبية سكان الأرض، ومع ذلك بقي بالنسبة إلى الأروبيين محسوبا ومصنفا كآخر من أصل محلى وليس من أصل كوني (أي أوروبي، وبعدها أوروأمريكي). إن حكاية باراك أوباما التي لبست في ومضة البرق لباس الأسطورة، هي حكاية ولوج الرجل «الآخر» كرسي الرجل «الأبيض». لهذا احتفل كل رجل وامرأة في العالم خارج أمريكا وأوربا بوقوع هذا الأمر، وقاسموا الناس في أمريكا وأوربا الذين آمنوا بنفس الفكرة الاحتفال بهذا الظهور. وأخيرا لا بد لنا من الاعتراف بالأخلاق العالية التي يتسم بها الرجل، رغم ما قد يكون عندنا من تحفظات أو اختلاف في المواقف السياسية معه، خصوصا وأنه ككل من يتقلد حكم بلاده، سوف يخدم المصالح الأمريكية بالدرجة الأولى. تحركت أقلام عربية بعد فوز باراك أوباما، وكتبت عن «دور» العرب في تلك الانتخابات، وفي التحولات المنتظرة مع تسلم الرجل الجديد زمام الأمر بواشنطن. لذا بدا لي أن أعبر عن رأيي توخيا للحذر واليقظة في تناول هذا الموضوع. فالحدث وضعنا في منزلة بين المنزلتين: فمن جهة أولى، نحن ننتمي إلى تلك الإنسانية التي رُتبت في مكان «الإنسان الآخر» منذ قرون، ولا أحتاج التذكير بالتفاصيل في هذا الموضوع، إذ يمكن أن نعتبر سقوط غرناطة، وبعدها هزيمة الأساطيل العثمانية بليبانتو بداية لإقحامنا في هذه الخانة أو التصنيف من طرف الأنظمة الأوروبية. طبعا نعرف أن لذلك جذورا في التوراة والأناجيل وتفاسيرها العديدة، وفي الحروب التي اشتعلت نيرانها بين الأديان الثلاثة منذ ظهور الإسلام، واستمرت بحدة في ما سماه الأوربيون ب«القرون الوسطى» وبعدها، ومازالت مستمرة، بشكل أو بآخر إلى اليوم. لكن بناء التاريخ واحتلال الصدارة فيه توطدا في أوربا منذ البداية، التي ذكرتها، مرورا ببسط النفوذ الإمبريالي على القارات، والاحتلال الكولونيالي، وما أتى بعده. ولا يخفى على أحد اليوم أن بناء هذا التاريخ هدف بشكل شعوري أو لاشعوري إلى احتواء المسارات التاريخية للشعوب «الأخرى»، أي المغلوبة، والتحكم في مصائرها. فانتصار باراك أوباما هو إذن، ومن هذه الزاوية، انتصار للإنسان الآخر، أي انتصار لنا أيضا. ويقتضي المنطق، هنا، الاحتفاء بالحدث. وإذا تأملنا أكثر جوانبه الأخرى، فإن قناعتنا بهذا الموقف تتجذر وتترسخ أكثر. فباراك أوباما ليس رمزا للإنسان «الآخر» حسب التعريف الذي اقترحته فقط، بل هو تجسيد لآخر الآخر، لأن أوصوله الإفريقية الزنجية تحيلنا مباشرة إلى تلك الظاهرة التي هي أشنع الظواهر الكولونيالية، ألا وهي ظاهرة استرقاق الأفارقة السود والاتجار في رقابهم. علما بأن الاسترقاق لم يكن اختصاصا أوروبيا أو أمريكيا، بل كان متداولا ومعروفا بين شتى شعوب القارات في القديم البعيد والقريب؛ وكان للعرب والمسلمين أيضا حظ وافر في تلك التجارة الرذيلة في رقاب السود وأجناس أخرى. وهذه حقيقة تاريخية يستحسن التذكير بها حتى لا يسمح أحد لنفسه بادعاء البراءة والتعالي الأخلاقي المطلق. ولكن مع التأكيد على أن ما ميز الاسترقاق الأوروبي الكولونيالي هو استخدام البشر على مستوى غير مسبوق كآلة إنتاج مملوكة مثلها مثل الحيوان، والآلات الأخرى التي هي من عداد الأشياء غير الحية، وذلك في الزراعة والصناعة والخدمة المنزلية والترفيه بحيث أصبحت تلك التجارة والاستعمال من قوام التكديس اللامسبوق للثروة الذي طبع ميلاد الرأسمالية، وما سمي أيضا بالحداثة وعصر الأنوار... ومعلوم أن مطاردة الرجال والنساء والأطفال، والتقتيل الجماعي، والإبادة، كما الغصب، وتفريق الأسر، وعزل الأطفال عن الأمهات والآباء، كل ذلك صاحب تلك الحركة المشؤومة التي طالت أيضا السكان الأصليين لأمريكا، الشمالية والجنوبية. ناهيك عن التمسيح بالقوة والتعذيب... ومن المهم في هذا الإطار التذكير بالسياق العام الذي قامت فيه الجمهورية الأمريكية المستقلة، بعد حرب التحرير ضد الإنجليز بزعامة جورج واشنطن ورفاقه «الآباء المؤسسون» كما اعتاد الأمريكيون تسميتهم. فإذا راجعنا قائمة هؤلاء نجدهم من أصول عائلية وجهوية مختلفة؛ أناس أبلوا بلاء حسنا خلال حرب التحرير؛ لكن هناك شيء واحد يجمع بينهم هو أنهم كلهم بيض، بحكم العنصرية المقننة والراسخة في العلاقات اليومية آنذاك. وعلينا ألا ننسى أن التمييز العنصري كان أيضا من نصيب الشعوب الأمريكية الأصلية. نشأت، إذن، الجمهورية الأمريكية باسم غايات نبيلة نجد في قلبها الحرية والمساواة، ومن أجل مبادئ ديمقراطية مستلهمة جزئيا من الثورات التي سبقتها كالثورة الفرنسية. ولكن هذه القيم الجديرة بالاحترام والإعجاب ظلت محصورة على البيض وحدهم دون العناصر الأخرى، أي دون ما سميته الإنسان الآخر، ليستمر الاسترقاق قانونيا إلى أن ألغي بفضل حركة قادها إبراهام لنكلن؛ ولكن التمييز العنصري استمر في الحقوق والواقع المعيش إلى حدود القرن العشرين حين قامت حركة اجتماعية قوية مطالبة بالحقوق المدنية في الستينات من القرن الماضي. هناك من سيقول إن ظروف نشأة باراك أوباما وتكوينه ليست هي ظروف كل المنحدرين من أصول إفريقية قديما، إذ ولد قبل أربعين سنة فقط لرجل من قبائل اللَْوَا المعروفة بكينيا، تزوج من امرأة أمريكية من البيض؛ وبعد انسلاخ أبيه عن الأسرة (ورجوعه الى مسقط رأسه ليتوفى ويدفن هناك) تزوجت أمه من رجل مسلم رحلت معه إلى إندونيسيا، حيث عاش معها الطفل باراك في صغره وتلقى بها تعليما أوليا للقرآن والإسلام، ليرجع بعد وفاة أمه إلى جدته التي ربته على الدين المسيحي البروتستانتي، وهو دينه الذي يقر به، ودين زوجته المنحدرة من أصول إفريقية أقدم. أما تكوينه المدرسي والجامعي فهو بالتحقيق تكوين الأقليات المحظوظة، حيث درس هو وزوجته في اثنتين من كبريات الجامعات الأمريكية (هارفارد وبرينستون).