رمى الشيخ يوسف القرضاوي، يوم الجمعة الماضي في خطبته الأسبوعية بالدوحة، كرة ثقيلة في ملعب مختلط وصب المزيد من الزيت على نيران الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة، عندما وجه -بكلمات واضحة- دعوة إلى كافة حجاج بيت الله الحرام إلى الدعاء على إيران وحزب الله الشيعي اللبناني، بسبب اتهامهما بالتورط في ما يحصل داخل سورية، وقال إن إيران «هي عدوتنا، عدوة العرب»، بحيث سد جميع المنافذ التي كانت مفتوحة، على ضيقها. هذه الدعوة كان يمكن أن تمر من غير أن يلقى لها بال لو صدرت عن رجل ليس هو القرضاوي، لكن هذا الأخير أوسع علماء الدين المسلمين انتشارا اليوم، وتم تمكينه من وسائل للحضور الإعلامي الطاغي بما لم يمكَّن منه أي عالم دين آخر غيره، ولذلك لا يمكن النظر إلى ما جاء على لسانه على أنه مجرد «رأي» لعالم، بقدر ما هو موقف سياسي صريح له أكثر من اتجاه. بيد أن ما يثير الغرابة أن تلك التصريحات، الخطيرة وغير المسبوقة منذ عهد بني أمية قبل أزيد من أربعة عشر قرنا، صدرت عن عالم دين ظل يبشر طيلة عقود من مشواره العلمي بخط الوسطية وينادي بالاعتدال، ولكنه في لحظة واحدة تحول إلى نافخ للكير لإشعال الفتنة بين المذهبين الكبيرين في الإسلام، مذهب أهل السنة والجماعة والمذهب الجعفري الإثني عشري، وخانته وسطيته لأن لا وسطية في السياسة. لقد استعاد الشيخ القرضاوي تراث معاوية كاملا غير منقوص، مع أن ذلك التراث يشكل واحدة من الصفحات السوداء في تاريخ الإسلام، فقد نقل المؤرخون أن معاوية أرسل إلى جميع ولاته وعماله في الأمصار يأمرهم بالدعاء على علي وآل البيت من فوق المنابر في المساجد، بسبب خلاف كان في أصله سياسيا، بما يعني اليوم أنه كان أول من أدخل الدين في السياسة، أي في الحسابات السياسية، وظل ذلك التقليد سائدا على مدى عقود طويلة إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز الذي أمر بإلغائه، لأن الدعاء على المسلمين يدخل في باب المنهي عنه في الإسلام، وفي الحديث: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم»، ودعاء السنة على الشيعة أو العكس يأثم فيه الإثنان معا. وعندما يستعيد الشيخ القرضاوي هذا التقليد البائس القديم، فإنه يبرهن، بالفعل، على أنه يوظف الإسلام في الحسابات السياسية، كما فعل معاوية من قبله، بسبب الخلافات السياسية القائمة اليوم بين بلدان الخليج وبين إيران، وبسبب المخطط الأمريكي المرسوم للمنطقة والذي يراد أن تكون منطقة الخليج أداة فيه. ويمكن القول إن كلام القرضاوي اليوم يعتبر تحولا نوعيا في التحضير للحرب ضد إيران، وتأكيدا لجدية التهديد الأمريكي الذي تكرر أكثر من مرة، وهو بمثابة تحضير للمسلمين السنة من أجل قبول نتائج تلك الضربة الأمريكية -في حالة ما إذا حصلت- استنادا إلى تبرير ديني، ذلك أن طلب الدعاء -الذي هو مخ العبادة، كما في الحديث- فيه تأكيد على المفاصلة الدينية بين السنة والشيعة، على أساس أن هؤلاء ليسوا من المسلمين، ولكنه في نفس الوقت بمثابة طمأنة -حتى لو لم تكن مقصودة من الشيخ- للولايات المتحدة تضمن لها عدم تدخل أي دولة من المحور السني في حالة ضرب إيران. في شهر يوليوز الماضي وبمناسبة زيارة الرئيس المصري الجديد أحمد مرسي للسعودية، كتبت مقالا ختمته بالقول بأن واحدة من دلالات الزيارة أن مصر لم تخرج عن الطوق الأمريكي كما كانت في عهد مبارك، كل ما في الأمر أن السعودية تريد تركيز خيوط اللعبة الإقليمية بين يديها عبر تذويب الزعامة المصرية، وأن صوت مصر الجديدة ليس نشازا في طبول الحرب التي تدق ضد إيران. واليوم مع تصريحات القرضاوي -الذي يعد مرجعا لجماعة الإخوان- يتبين، فعلا، أن هذا التوجه بات صحيحا. إنه مهما كانت الخلافات بين البلدان العربية، وأساسا بلدان الخليج، وبين إيران، فإن إقحام الدين فيها أمر خطير للغاية، ولكن المشكلة الأخطر التي لم يستحضرها الشيخ القرضاوي، الذي يتحدث كثيرا عن «فقه الموازنات»، أن التصريحات التي أدلى بها في معرض «الدفاع» عن الشعب السوري، سوف تزيد في إشعال نيران القتل، ولو فرضنا أن ما يجري في سوريا لم يكن حربا طائفية حتى الآن فإنها ستصبح حربا طائفية بالفعل، أما لو كانت كذلك فستصبح بعد اليوم أكثر حدة لأن تلك التصريحات سوف توقظ الغرائز المذهبية التي كانت نائمة، وفي الحالين لن يستفيد منها السوريون شيئا، اللهم المزيد من الويل. بقي هناك تساؤل لا بد من طرحه: كيف ستتعامل السعودية مع هذه التصريحات التي ترمي إلى تسييس فريضة الحج، علما بأن هذا الأمر ظل خطا أحمر منذ قضية جهيمان العتيبي عام 1979؟