في مقال سابق نشر لي بهذه الجريدة، أكدت أن الحكومات القوية تترك لأي حكومة جديدة مناهج وإطارات للتدبير تضمن استمرارية تنفيذ ومتابعة وتقييم المخططات القطاعية بشكل يضمن نجاعتها وفعاليتها وأثرها على نسبة النمو وعلى التوازنات الماكرو الاقتصادية. ما يلاحظه المراقبون والمتتبعون للشأن العام وللسياسات العمومية بالمغرب اليوم هو غياب هذه المنهجية وهذه الإطارات التي تعطي صورة واضحة عن مدى مصداقية البرنامج الحكومي للحكومة الحالية ومدى قدرتها على التنزيل السليم لمضامين الدستور، إذ لم يصادق البرلمان إلى حد الآن إلا على قانون تنظيمي واحد يهم التعيين في المناصب العمومية منذ تنصيب الحكومة في فبراير 2012. لكن بغض النظر عن هذه الملاحظات فإن الحكومة وباقي الفاعلين الاقتصاديين، خاصة الاتحاد العام لمقاولات المغرب والقطاع المالي وبنك المغرب، مطالبون بتنسيق الجهود واتخاذ التدابير العاجلة، سواء على المدى القصير أو المتوسط، لمعالجة نقاط الخلل التي تمس الاقتصاد الوطني حاليا والتي نلخصها في ثلاث: المخططات القطاعية.. أية فعالية؟ يشكل تفعيل وتنسيق المخططات القطاعية الكبرى أولى الأولويات لمواجهة الأزمة الاقتصادية، إذ لا يمكن الرفع من نسبة النمو، وبالتالي خلق الثروات، دون إنجاح المخططات الحالية؛ وأقصد هنا مخطط المغرب الأخضر، مخطط الإقلاع الاقتصادي، مخطط أليوتيس، المخطط الطاقي، مخطط مغرب التصدير، رؤية 2020 للقطاع السياحي، مخطط المغرب الرقمي، وغيرها من الاستراتيجيات الفرعية المكملة والمواكبة، إذ تؤكد تقارير المؤسسات الدولية، خاصة البنك الدولي، أن تطور الأداء الاقتصادي للمغرب مرتبط بالرفع من نسبة النمو إلى حدود 6-8 في المائة سنويا، والتركيز على القطاعات والاستثمارات ذات المردودية العالية والقيمة المضافة في النسيج الاقتصادي بشكل يضمن تشجيع الاستهلاك الداخلي، من جهة، وتنافسية الصادرات المغربية الموجهة نحو الأسواق الدولية، من جهة أخرى. لذا يشكل تفعيل وتنسيق المخططات القطاعية والاستراتيجيات المواكبة أنجع السبل لمواجهة تداعيات الأزمة التي تمس حاليا بلدان منطقة اليورو والشركاء الاقتصاديين للمغرب، خاصة إسبانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال، إذ لا بد من ضبط آجال وأهداف هذه المخططات ووضع تقييم دقيق وعملي للإكراهات التي تواجهها. عجز الميزان التجاري وعجز ميزان الأداءات.. إلى أين؟ إن الأزمة الحالية ليست سوى شجرة تخفي غابة تتمثل في غياب سياسة ورؤية اقتصادية ومالية واضحة لدى مختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين، فعجز الميزان التجاري مرتبط منذ سنوات بضعف تنافسية النسيج الاقتصادي المغربي مقارنة بالدول الصاعدة، كالهند وتركيا وأندونيسيا والصين وكوريا والبرازيل. وقد زاد من تفاقم الوضع إبرام اتفاقيات التبادل الحر مع الولاياتالمتحدة وتركيا وعدة دول عربية. وهنا، يجب على المسؤولين أن يميزوا بين الأهداف السياسية والاقتصادية والتجارية لمثل هذه الاتفاقات، وأقصد هنا بالضبط الاتفاق مع الولاياتالمتحدة، إذ لا تحتاج المقاولات القوية والمساندة من طرف حكوماتها إلى أية اتفاقات للتبادل الحر، إنها مقاولات قادرة بفعل تنافسيتها على الولوج إلى مختلف الأسواق الدولية وضمان استفادة اقتصاداتها من هذه التنافسية عبر رفع نسبة النمو إلى أعلى المستويات والمساهمة في خلق ثروة وطنية، والدليل على ذلك مختلف المشاريع التي تتولاها شركات فرنسية كبرى بالمغرب (الترامواي، القطار فائق السرعة، والبنيات التحتية والطرق السيارة...). أما عجز ميزان الأداءات فمرتبط بضعف تغطية الصادرات للواردات وعدم وجود سيولة كافية على مستوى الاحتياطي الخارجي من العملة الصعبة وبالأرقام، فحجم الاحتياطي حاليا لا يكفي سوى 4 أشهر من الواردات عوض 11 شهرا سنة 2009. بالمقابل، فعجز الميزان التجاري سيصل إلى 8 في المائة من الناتج الداخلي الخام في نهاية سنة 2012، وقد زاد من تفاقم هذا العجز تراجع مداخيل السياحة وتحويلات الجالية المقيمة بالخارج والاستثمارات الأجنبية المباشرة وضعف الصادرات المغربية نحو الأسواق الدولية. وقد قامت الحكومة بإجراءات تصحيحية عبر اللجوء إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي وصندوق النقد العربي بقرضين يصلان إلى 7 ملايير دولار، وهو ما دفع العديد من المتتبعين إلى الحديث عن عودة ما سمي ب«برنامج التقويم الهيكلي» الذي عرفه المغرب ما بين (1981-1993). وهنا، لا بد أن أشير إلى عدم صحة هذا الوصف، لأن التقويم الهيكلي الذي شهده المغرب خلال فترة الثمانينيات أعاد بناء هذه التوازنات الماكرو-اقتصادية، وتم في ظروف مغايرة بلغ فيها عجز الميزانية نسبا تصل إلى 10-13 في المائة، وعرفت فيها المديونية ونسب التضخم ارتفاعا مهولا، كما مهد لوضع الأسس للنظام الجبائي الحالي سنة 1984 عبر وضع القانون الإطار للضريبة على القيمة المضافة والضريبة العامة على الشركات والضريبة العامة على الدخل. بالمقابل، كانت للتقويم الهيكلي آثار سلبية على الوضع الاجتماعي في قطاعات الصحة والتعليم والخدمات، مما دفع المسؤولين إلى تبني برنامج الأولويات الاجتماعية في 14 إقليما منذ سنة 1994، في حين لا يمكن مقارنة الوضع الاجتماعي الحالي بعد تبني المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005 بالوضع إبان مرحلة الثمانينيات التي شهدت احتجاجات اجتماعية قوية ما بين 1981 و1991. لقد اتخذت الحكومة الحالية إجراءات احترازية مهمة لمواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية، لكن ذلك لا يغني عن ضرورة وضع أسس سياسية اقتصادية بديلة فعالة وناجعة على المدى الطويل، على اعتبار أن الأزمة تعيد النظر في موازين القوى على المستوى الاقتصادي الدولي، وتعيد النظر في دور المؤسسات الدولية التي أثبتت الأزمة عجزها عن توقع مواكبة وإيجاد حلول عميقة لأزمة تدوم حاليا ما يزيد على 5 سنوات. عجز الميزانية وضعف الادخار.. أية حلول؟ وفق المعايير الدولية، خاصة معايير الاتحاد الأوربي، لا يجب أن يتجاوز عجز الميزانية 3 في المائة من الناتج الداخلي الخام، لكن الالتزامات الاجتماعية وارتفاع أسعار المواد الأولية في الأسواق الدولية ونفقات المقاصة ستدفع هذا العجز إلى 6-7 في المائة نهاية 2012، مما يفرض على الحكومة اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من هذا العجز عبر الرفع من المداخيل والتقليص من الإعفاءات الجبائية التي تمنحها لعدة قطاعات دون مردودية تذكر على الاقتصاد الوطني وعلى نسبة النمو، بالإضافة إلى محاربة التهرب الضريبي ومظاهر الفساد والريع وإدماج القطاع غير المهيكل في الاقتصاد بشكل عقلاني وسليم؛ كما يشكل الرفع من الادخار الوطني والمؤسساتي ودعم البورصة أهم التحديات التي ستواجه الحكومة والفاعلين الاقتصاديين في المرحلة المقبلة، إذ لا يمكن تصور خلق المركز المالي للدار البيضاء دون وجود بورصة قوية ومتوازنة على الأقل، بشكل يمكن من الإدماج المؤسساتي للنسيج الاقتصادي الوطني بمختلف مكوناته، سواء تعلق الأمر بالمقاولات الكبرى أو الصغرى والمتوسطة. إن الأزمة الحالية مست قلب النظام الاقتصادي الدولي، وأقصد الولاياتالمتحدة، وزادت من المتاعب السياسية للولايات المتحدة في علاقاتها بالعالم العربي والإسلامي، ثم انتقلت إلى أوربا، الحليف الاستراتيجي لأمريكا، في حين استفادت آسيا من أزمة 1998 وقوت اقتصاداتها بشكل جعلها في منأى عنها مؤقتا، إضافة إلى أمريكا اللاتينية بعد أزمة المكسيك سنة 1994. الأزمة حاليا تتجه نحو الجنوب، ويجب على المغرب أن يكون حذرا في تعامله معها لأنها ليست أزمة اقتصادية فقط، إنها أزمة تمس جوهر التوازنات داخل النظام الدولي. باحث في جامعة محمد الخامس- الرباط عضو المعهد المغربي للعلاقات الدولية