تتميز المجتمعات الغربية بالحرية الذاتية الواسعة وقيم الفردية والعلمنة وفصل الدين عن الدولة، ولذلك تتسم الحياة الاجتماعية والثقافية الغربية بمساحة كبيرة من الحرية في ممارسة وتداول مختلف الأشياء والقضايا، وحتى تلك المحسوسة منها للمهاجرين ذوي الخلفية الإفريقية العربية والإسلامية بشكل عام. فمن الطبيعي جدا في البلدان الغربية مناقشة القضايا ذات الطابع الخصوصي دون استعمال أداة أو أسلوب التورية. كما أن النقاش حول الأمور المتعلقة بالعقائد الدينية لا يمكن أن يعوقه عائق أو يمنعه مانع، إلى درجة أنه بإمكان الفرد الغربي أن يعتقد في أي دين أو عقيدة، أو يغير دينه إلى دين آخر دون أن يتوقع حكما بالردة أو بالتكفير، إن من الدولة أو من الكنيسة. وهذا الوضع سهل على أزيد من 150 ألف أوربي اعتناق الإسلام عن قناعة شخصية، دون خوف أو خشية من المجتمع أو من أسرهم. الأوساط المغربية المهاجرة الممارسة لديانتها تكون عادة قاصرة عن الانخراط أو المشاركة في الأنشطة الاجتماعية للمجتمع الغربي. ولذلك تجد من المهاجرين المغاربة من يراعون جملة من القواعد والأحكام الإسلامية التي يعتبرونها لا تتوافق مع قيم وأعراف المجتمعات الغربية، مثل الامتناع عن الجلوس إلى مائدة موضوع عليها خمر، أو عدم مصافحة المرأة المسلمة للرجل الأجنبي، أو اتخاذ موقف مضاد بالكامل للرقص والغناء والموسيقى. كما أن هناك شرائح من الشباب المتدين مترددة في ربط علاقات بالجنس الآخر لبواعث دينية واجتماعية. وهناك أيضا فتيات مسلمات محجبات مترددات في المشاركة في بعض الأنشطة أو ولوج جمعيات أو أندية مختلطة بسبب نظرة الاستغراب والمضايقة، وأحيانا الهمز واللمز التي يواجهنها في مثل تلك الأماكن. أما الذين اعتنقوا الإسلام من الأوربيين، أو غير المتدينين من أصول عربية إسلامية، وكذلك من أتباع الديانات الأخرى، فلا يبالون لذلك، كما أن لديهم علاقات جيدة ومتينة وصداقات حميمة بأفراد المجتمع الغربي. ومن هنا نلاحظ أن الأجيال المغربية التي فتحت أعينها على حضارة الدول الغربية في المهجر تتعرض لعملية تغيير وتحديث نتيجة للعامل الثقافي والمنهجيات والحياة اليومية. ولا ريب أن الأسرة المغربية المهاجرة قد تعرضت لرياح التغيير الاجتماعي في عملية التحول هذه، خصوصا في التربية وتنشئة الأطفال الذين هم أكثر تعرضا لتأثير الظروف المرتبطة بمجتمع الإقامة، وليست لهم أية قدرة أو طاقة على رد الفعل أو إرادة الانتقاء والاختيار لما يمليه عليهم المجتمع، وبالتالي لا تمتلك الأسرة قوة لمواجهة العلاقات الصراعية التي مردها اختلاف الظروف والملابسات والأوضاع التي تحيط بها من كل جهة، مما يجعل تلك الأسر عاجزة عن الوقوف في وجه التأثيرات النوعية، وفي وضعية تضارب تنعكس على شبكة علاقاتها الاجتماعية ونظام الأفعال بشكل غير منسجم ولا متوافق، كذلك هي تحت رقابة انعكاسات المجتمع الذي يحيل علاقاتها إلى جملة من الإشكالات بالغة الأهمية والمفروضة بحكم الواقع الاجتماعي، وما تحتضنه من معطيات ومؤشرات تتسم في غالبيتها بالارتباك، خصوصا وأن السلوك الفردي شيء، والمؤسسات تدفع إلى شيء آخر، والقيم والمعتقدات تدفع إلى شيء ثالث. لكن، كيفما كانت الوسائل المستخدمة في هذا المضمار، فربما تؤدي في آخر المطاف إلى تفكيك الأسرة وتقويض تكويناتها الاجتماعية المركبة وامتثال أطفالها لتنشئة المقومات الثقافية للمجتمع الذي ترعرعوا فيه. في سياق ما ذكرناه، يتضح جليا أن هناك عوامل متباينة تؤثر بشكل أو بآخر في تنشئة الأجيال الحالية أو الأجيال اللاحقة من المهاجرين المغاربة، ما دامت هذه المجتمعات التي تقيم فيها الجاليات المغربية مجتمعات ليبرالية رأسمالية، شغلها الشاغل هو تجميع الثروات الاقتصادية والمالية ومراكمتها وتطوير المعارف والعلوم الدنيوية بمختلف أنواعها ومناهجها، وبالتالي العمل على توسيع دائرة التنوير والحداثة والمساواة.. إلخ، ونشر هذه الثقافة في أوساط المجتمعات العالمية. هذا هو حال المجتمعات الغربية ذات الإيديولوجية الليبرالية. السؤال المطروح الآن هو: هل للعلمانية تأثير على الأقلية المغربية المسلمة؟ الجواب هو: نعم، والعلمانية سيكون لها أثرها على هذه الأقلية، لكن على المدى البعيد، على الرغم من أن العلمانية ليست إلا واقيا لمؤسسات الدولة، فهي تستبعد البعد الديني عن بنيات الدولة خشية سيطرة الكنيسة مرة أخرى على المجتمع. لقد أطاحت بالحكم الديني في أوربا، وبالمماليك التي كانت تناصره، زمرةٌ من المثقفين مثل فولتير وديدرو وجان جاك روسو وغيرهم، نظرا إلى الحيف والإجحاف الذي كانت تمارسه الكنيسة في حق الشعوب بزعم أنها تستمد مشروعيتها من الله. لذلك أعتقد الآن أنه سيكون للعلمانية تأثيرها على الأقلية المسلمة عموما، والمغربية خصوصا، لكن هذا التأثير لن يطال قلوب المؤمنين، أي أنه لا يمكن، بل من المستحيل أن تؤثر العلمانية على عقيدة المؤمن، ذلك أن العقيدة تسكن القلب ويستحيل على العلمانية أن تزيح الإيمان من قلوب الناس. أما الممارسة العلنية للشعائر الدينية فهي مضمونة دستوريا في هذه المجتمعات ولا يمكن للعلمانية ولا لغيرها أن تطمع في منعها. إن العلمانية حريصة على الوقوف في وجه رجال الكنيسة ونظم الحكم الشمولية والتسلطية التي تدعي الوصاية على الناس، لكن لا مجال لكي تؤثر في عقائد الناس وقناعاتهم الدينية والفكرية. طبعا، لا ننكر أن للعلمانية انعكاساتها السلبية على الدين، لكن الذين ستؤثر فيهم العلمانية أو الذين سيكونون من «ضحاياها» هم أولئك المتذبذبون الذين لا يحملون قناعات دينية أو فكرية راسخة. وهؤلاء المتذبذبون موجودون حتى في المجتمعات العربية الإسلامية، وما أكثرهم. أما من إيمانه قوي وتجده متشبثا بحبل الله المتين، متوكلا على الحق المبين، منخرطا في بنيات ومؤسسات الدولة، مساهما بفكره وساعديه في بناء المجتمع اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا، مبتعدا عن الغش والكذب والمتاجرة في الحرام، مجتهدا مع المسلمين في بناء المساجد والمعاهد الدينية والمؤسسات والمدارس الإسلامية التي يضمنها الدستور لكل الأقليات الدينية القاطنة في هذه المجتمعات، فسيكون من المفلحين في الأولى والآخرة. باحث في سوسيولوجيا الهجرة