كعادته، في المرات القليلة التي يخرج فيها المفكر المغربي عبد الله العروي عن صمته، يقول أشياء نكاد لا نجد لها نظيرا بين ركام الأقوال في زمن الخواء المعرفي. في خرجته هاته، يفصح العروي عن مواقفه وتصوراته حول قضايا كثيرة تنطلق من أسلوبه في الكتابة وتتوقف طويلا عند مفاهيم الحداثة والتقليد والموضوعية وكتابته عن عهد الحسن الثاني والاقتصاد والليبرالية... لتنتهي عند قضايا التربية واللغة وأمور أخرى. مواقف العروي هاته عبر عنها في أجوبته عن أسئلة الزميل الباحث إدريس كسيكس والباحثة فاضمة أيت موس. - نحن نوجد، اليوم، في قلب الاقتصاد الحديث، لكن دون أن نتحكم فيه. من جهة، هنالك الفقاعة المالية التي مافتئت تنتفخ؛ ومن جهة أخرى، نجد أن الفوارق الاجتماعية على حافة الانفجار. هل تعتقد أن هذه المفارقة هي الثمن الذي ينبغي دفعه من أجل الانخراط في مسلسل تحرير الحياة العامة؟ < تحليل النظام الرأسمالي لا يمكن فصله عن التحليل الليبرالي. لكن النقطة التي أثارها ماركس والتي لم تكذبها، أبدا، الأحداث، هي أن النظرية (الرأسمالية أو الليبرالية) تطمح إلى تحقيق حرية الفرد لكنها لا تشتغل إلا مع الجماعات. أما ما يتعلق، مباشرة، بالسؤال المطروح، فله صلة بمفارقة أخرى غير قابلة للتجاوز، توجد ما بين المادي واللامادي. الرأسمالية تطور، أكثر فأكثر، اللامادي دون أن تنفصل، أبدا، عن المادي الذي تقلل من شأنه باستمرار إلى حد أنها تلغيه، في بعض الأحيان، من حساباتها. المادي، إذن، كما الجماعة، يلتقيان مع الرأسمالية زمن الأزمات. فطيلة 10 أو20 سنة لم يسبق أن طرأت أزمة، فقيل إن نظرية الأزمات انتهت؛ ثم حدثت الأزمة من جديد. لماذا، إذن، لا نستحضر ما قاله ماركس في الموضوع؟ نظريا، توجد البورصة لتنظيم الادخار ووضعه رهن إشارة الذين ينتجون الممتلكات المادية، لكن عن طريق شكل آخر من المفارقة، التي تحدثنا عنها سابقا. الرأسمالية تعطي قيمتين لشيء واحد: قيمة نعاينها وأخرى نستبقها. وعليه، نجد أنفسنا أمام غواية اللعب على الفوارق. هذا أمر يفرض علينا نفسه وليست لنا تجاهه حيلة لأن الخاصية الأساسية للرأسمالية هي أنها تغير تصورنا للزمن بشكل جذري. الآن، إذا ما تم إدراك ما جرى جيدا، نجد الأمور ليست بالشكل السيئ الذي يدعو إلى القلق الكبير؛ وذلك لأن الأزمة جزء من النظام. وأما إذا لم يُفهم هذا الأمر لأن الاقتصاد، كمادة للدراسة، لا يُدرس أو لا يُدرس على نحو صحيح عندنا، فإن الانتقال، الذي لا مفر منه، من المادي إلا اللامادي – من الإنتاج إلى البورصة- يعزز الإيمان اللاعقلاني بالغيب، إذ يعتقد الأفراد أن بإمكانهم أن يصبحون أغنياء بين عشية وضحاها إذا عرفوا كيف يحصلوا على قرض من دون ضمانة، أو إذا حصلوا على المعلومة الصحيحة؛ يعتقدون كذلك أن الدولة يمكنها أن تمول كل شيء وأنها إذا لم تفعل ذلك، فبدافع الاحتقار أو اللاحترام. وهنا، نجد أنفسنا في دائرة التربية. - كتبت أن الأخلاق الفردية تكاد تكون بدون تأثير في غياب الأخلاق الجماعية. كيف السبيل، اليوم، إلى إحداث أخلاق مضادة للمضاربة؟ اليوم، أصبحت المالية فقاعة تعيد تحويل نفسها لا في منظومة إعادة التوزيع ولا في أي شيء آخر... < لنترك الفقاعة تنفجر. وأولئك الذين لا يغادرون البورصة بسرعة سينتهي بهم الأمر إلى الإفلاس. الأخلاق الاجتماعية مرهونة بعدد من العوامل، منها الأسرة والمدرسة والجماعة الإثنية أو الاجتماعية والانتماء الديني والنظام السياسي، إلخ... لننظر إلى ثنائية المدرسة والنظام السياسي انطلاقا من مضمون المقررات المدرسية المعتمدة في الفصول الابتدائية.. نلاحظ أن التربية عندنا لها هدف واحد، وهو الوفاء؛ وهي امتداد لما بدأته أو كان لابد أن تبدأه الأسرة والزاوية والعشيرة، إلخ. إذ يبقى السائد في هذا الأمر صنفا خاصا من الإنسان؛ إنسانٌ بخصال دقيقة يجب تشجيعها ونقائص دقيقة، كذلك، يجب الاحتياط منها ولا يهم في النهاية إذا ما كان هذا هو الصنف من الأفراد الذي يحتاجه المجتمع فعلا في مرحلة نموه الحالية. لنتصور، الآن، بيئة سياسية أخرى، تلك التي تستجيب لآمالي، وحيث السلط محددة بموجب الدستور، وحيث تمارس بالشكل المطلوب من قبل المسؤولين عنها. في هذه الحال، سيكون الجزء الأكبر من التربية المدنية يمارس خارج المدرسة العمومية التي لن يكون لها، بعدئذ، إلا مهمة واحدة تتمثل في تكوين الرجل المناسب، النافع (من حيث المعنى الاقتصادي) للمجتمع. هذا النوع من المنفعة المطلوبة عند الفرد هو الذي يحدده البرلمان كممثل للمجتمع. هذه التربية - التكوين، التي تهدف إلى تحقيق النفعية تسقط هي نفسها تحت طائل حساب النفعية، وعلى جميع المستويات؛ إلا أننا مازلنا بعيدين جدا عن هذا المستوى. - في كتاب «المغرب والحسن الثاني» أثنيت، إلى حد ما، على المجهود الذي بُذل لتحقيق التنمية. الآن، تُطرح إشكالية إعادة التوزيع. كيف ترى هذا الاختلاف وتبعاته السلبية اليوم؟ < يحدث أن أتمنى أن أرى في كل مكان محاسبة مزدوجة، الواحدة اقتصادية والثانية اجتماعية. أعرف أن هذا الكلام مردود عليه بأنه من الصعب جدا التمييز بينهما من حيث كون الإنفاق الاجتماعي هو، في نفس الوقت، عنصر إنتاجي. بيد أنني أُبقي على الاعتقاد بأنها، حتى ولو كانت تقريبية، يمكن أن تكون لها قيمة تربوية، إذ ستبين لكل واحد حدود الممكن وغيرالممكن. في غياب ذلك، كيف يمكن البرهنة للرأي العام على أن التشغيل المباشر لحملة الشواهد العاطلين هو أقرب الطرق إلى الإفلاس؟ سنرى، إذن، أننا نستفيد من الكثير من الثروات التي لا ننتجها عندنا. ويمكن أن نقلب المشكل من جميع جوانبه، لنعود في الأخير إلى الاقتصاد الواقعي وإنتاج الثروات المادية. الأساسي بالنسبة إلي ليس نسبة النمو (ألاحظ عموما أن البلدان التي تُقدم إلينا كأمثلة في هذا الباب تشهد تضخما يضاعف أو يمثل ثلاثة أضعاف التضخم عندنا، كما هو الشأن بالنسبة إلى تركيا، مثلا، أو التايلاند) بقدر ماهو فائض القيمة، أي فائض الثروة الحقيقية التي تُخلق كل سنة. فالفقر البنيوي، يترتب، على المدى البعيد، عن كون فائض القيمة يكون إما ضعيفا أو غير موجود البتة؛ وذلك راجع إلى فلاحتنا العتيقة. أعرف أن هنالك مشكل الماء والمناخ والتصحر، إلخ، لكن هنالك، كذلك، عامل بشري يتجلى في الخلية العائلية وحق الوراثة ونمط الاستغلال. لقد كانت دائما السياسة الفلاحية، التي تشجع الزراعات الموجهة إلى التصدير على حساب تلك التي يتعيش منها الناس، موضوع انتقاد منذ زمن الحماية؛ وكونها استمرت قائمة، رغم الانتقادات المتكررة، يؤكد أنها تستجيب لإكراهات اقتصادية وسياسية تتمثل، أساسا، في سهولة إقامة مثل تلك الزراعات والاستفادة السريعة من ثمارها. بيد أنه إذا ما ظلت فلاحتنا على الحال التي هي عليها الآن، ستظل بلادنا تعاني الفقر؛ وتظل،إذن، الفوارق قائمة على جميع المستويات. فالثاني مرتبط بالأولى. والمثال الذي تجسده إيطاليا المقسمة بين الشمال والجنوب فيه تأكيد لما أقوله. إن ما أتأسف عليه أكثر هو أننا نغير سياستنا كل خمس سنوات. فقد قررنا تطبيق سياسة الأمن الغذائي، إلا أننا تخلينا عنها لأنها كانت مكلفة، قبل أن ترتفع الأسعار في السوق العالمية لتنزع عن التحليل السابق مبرراته ودواعيه؛ فعدنا إلى الحديث، من جديد، عن الأمن الغذائي وسنظل نتحدث عنه إلى أن يدعونا مستشار جديد إلى تبني سياسة تدبيرية بشكل أفضل للموارد؛ وهكذا دواليك. إننا لو كنا استمررنا على طريق السياسة الأولى، لكنا أفضل حالا مما نحن عليه اليوم. عن «لاروفي إكونوميا»