في قراءة نقدية لباحث مغربي ( ) عن التناقضات الصارخة التي تعيشها النخبة السياسية المغربية الراهنة بين تمثلاتها الذهنية وممارساتها الميدانية، تأكيدٌ على أن هذه الأخيرة تتوزع بين استيراد النظريات الجاهزة والعمل على إسقاطها على الواقع مهما أثبت هذا الأخير من تناقض أو تجاوز أو عدم ملاءمة لخصوصياته الثقافية واللغوية، وبين السعي الحثيث إلى نمذجة التجارب الشخصية واعتبارها المرجع الوحيد الذي يفسر من خلاله كل ما طرأ ويطرأ على المجتمع من متغيرات أو تحولات. في هذا الصدد، تؤكد القراءات العلمية المتخصصة أن النخبة السياسية التي تعتلي «منصة» السلطة في الزمن الراهن تلتزم بمبادئ كتاب «الأمير» لميكيافيلي، الذي وضع مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وحضور نفعية براغماتية، إذ أصبح لهذه النخبة كامل الاستعداد القبلي لفعل أي شيء والتضحية بأي مبدأ لصالح المبدأ الكبير، الذي هو المصلحة الخاصة. ولتحصيل كل هذا، يصبح الفساد شعارا والفن الرديء والإعلام الهابط آلية ووسيلة، والحفاظ على الريع... وعلى الامتيازات الخاصة مطمحا وهدفا؛ فهل يعني ذلك أن نفور الجماهير المغربية من المشاركة السياسية يعود إلى هذه المعضلة التي جعلت السياسة تتحول من فن الممكن إلى فن المستحيل؟ مثل هذا السؤال يقودنا حتما إلى سؤال أساسي آخر ونحن في دخول سياسي جديد، بكل المواصفات والمقاييس: كيف للأخلاق أن تتناغم مع السلوكات السياسية لقادة الحقل السياسي الذين رفعوا الراية البيضاء أمام قوافل الفساد... والذين جعلوا من منظومات الفساد «قاطرة أمان تقودهم إلى المناصب والأموال والسلط والامتيازات وما يبتغون من ملذات... وهم جميعا، جعلوا الجماهير ترى في السياسة مضيعة للوقت وفسادا للأخلاق؟ من المحزن أن نعترف بأن المغرب عرف في عهد الاستقلال، على يد «النخبة السياسية»، فسادا مس بجنونه مختلف القطاعات.. فساد سياسي تجسده الأحزاب المصنوعة وتؤطره الانتخابات الفاسدة والنخب المخدومة، وفساد مالي وإداري تجسده مظاهر الرشوة والمحسوبية والزبونية واستغلال النفوذ؛ وفساد اجتماعي/ أخلاقي تجسده العهارة وهتك الأعراض والاعتداء على الأصول وتهريب المخدرات والتملص الضريبي والتخلي عن القيم الدينية. وجميعها مفاسد تنحدر من «العائلة السياسية» التي تهدف إلى حصد المال والسلطة بكل الوسائل وبمختلف الإمكانات. لقد استطاعت هذه المفاسد، خلال العقود الأخيرة، تكوين منظومتها الرهيبة؛ استطاعت هذه الأخيرة، بسيطرتها المحكمة ونفوذها الجبار، تحويل العديد من المؤسسات العمومية إلى إمبراطوريات خاصة، تشكل دولة داخل دولة، بعيدة عن المراقبة الصارمة، لا تشرف عليها الحكومة ولا يراقبها البرلمان. على يد هذه المنظومة، أصبح الفساد السياسي/ المالي/ الأخلاقي، قادرا على التوالد والتنامي والتجدد، وأصبح قادرا على فرض نفوذه على البلاد والعباد بقوة السلطة وبنفوذ السياسة وبحكم العلاقات القائمة بين «الأسياد» وبين مصالحهم الخاصة. أصبحت المفاسد السياسية على نحو لا يتأتى لأي شرعية أو قانون، وأصبحت (منظومة الفساد) تمتلك آليات الانتشار المؤثر على النسيج الاجتماعي وعلى سلوكيات وقيم الأفراد. وعلى يد هذه «المنظومة وأسيادها»، غابت الرقابة وأهدرت قيم القانون. إنها «المنظومة» نفسها التي احتكرت/ تحتكر السلطة، والتي صادرت/ تصادر الحريات العامة، والتي غيبت الرقابة الشعبية وألغت دور مؤسسات المجتمع المدني... لتصبح مصدرا أساسيا للتخلف في كل أبعاده. وإن متابعة متأنية ل«منظومة الفساد» في تحركها على أرض الواقع من شأنها أن تجعل الملاحظ قادرا على ملامسة أبعادها القريبة والبعيدة في الإدارة والتجارة والسياسة والمال، ورؤية أنها تستشري في جوانب الحياة عامة باعتبارها نتاجا لعناصر مختلفة، أصرت على تهديم الإنسان/ تدمير قيمه، وتخريب النظم الأخلاقية للمجتمع من أجل الاحتفاظ بالسلطة والمال. أوجدت هذه المنظومة على زمن الاستقلال جهازا تخريبيا لتعطيل القانون. وأوجدت قيما وسلوكات تسللت من خلالها إلى السلطة العمومية، بعدما عطلت بالمجتمع العام الكثير من أخلاقياته وقيمه التي تحميه من السقوط. وإن ما أعطى ل«منظومة الفساد» هولها على الأرض هو سلسلة من السلبيات التي زكت، بشكل أو بآخر، المفهوم الذي تبنته «النخبة» السياسية التي تتحكم في المال والسياسة والسلطة. وهي نفسها النخبة التي زكتها في الماضي القريب وزارة السلطة على حساب الأغلبية، والتي عملت على إقصاء الكفاءات والمؤهلات، والتي عطلت قانون سيادة الدولة، وأحلت سلوكات ومعايير... أمنية/ زبونيه/ مصلحيه في كل مؤسسة وكل إدارة وكل جهاز؛ وهو ما أدى، في نهاية المطاف، إلى خلق طبقة من الأثرياء الذين جمعوا أموالهم بطرق وأساليب غير مشروعة، وإلى مضاعفة فقر الفقراء، ومضاعفة معاناتهم وتهميشهم وحرمانهم من حقوقهم بالباطل.. نخبة لا يهمها من انتمائها إلى وطنها إلا ما تحصده من أموال وسلط ومنافع وخيرات هذا الوطن. هكذا، عندما ظهر حزب العدالة والتنمية وظهر خطابه الدعوى الذي يدعي قدرته على مكافحة الفساد ومنظومته وأحزابه وقادته، وجاء تعهده بالإصلاح والمحاسبة، ربح الرهان الانتخابي على اعتبار أن حزب العدالة والتنمية، بحمولته الدعوية/ الإرشادية/ الدينية، لا يمكن أن ينهزم أمام الفساد، ومنذ اللحظات الأولى... ولكن أليس الصبح بقريب. هل يعني ذلك أن اتساع الأدوار السياسية والاقتصادية والمالية للفاعلين السياسيين والأحزاب والحكومات المتعاقبة هو ما ركز سيادة البيروقراطية على المصالح الوطنية؟ لحكومة العدالة والتنمية؟ إن النظر الدقيق إلى آثار منظومة الفساد على مغرب عهد الاستقلال من زاوية البحث العلمي، أو من زاوية البحث الإعلامي، يكشف الحجم الحقيقي والمهول الذي تحتله «مداخلاتها» في المعاملات اليومية، فهي، على اتساع دائرة هذه المعاملات، تتشابك حلقاتها وتترابط آلياتها إلى درجة تدفع إلى التساؤل المحير: أي مستقبل ينتظر المغرب في هذا الظرف العصيب من التاريخ؟ نطرح هذا السؤال، بكل حسن نية، على الأستاذ عبد الإله بنكيران وحزبه الفائز، الذي أضحى يشكل النخبة الحاكمة الجديدة في الدخول السياسي الجديد؟ نضع السؤال، ولا ننتظر الجواب من أحد، ذلك لأن «التاريخ» وحده من يجيب عن الأسئلة الصعبة.