أدعو إلى التفرقة بين شيطنة الإخوان وبين نعي الثورة في مصر، إذ الشيطنة في أحسن فروضها من قبيل الاجتهاد في الفروع، أما نعي الثورة فهو في كل أحواله إنكار للأصول وافتراء على الحقيقة. أفرق، في هذا الصدد، بين ثلاثة أصناف من الناس: المحبطون والناقمون والشامتون. الأولون رفعوا عاليا سقف توقعاتهم بعد نجاح الثورة، وظنوا أن الربيع سوف يستصحب الجو البديع الذي في ظله يتغير بسرعة لون الحياة، من كآبة القاتم إلى بهجة البمبى (مع الاعتذار إلى الأغنية الشهيرة). هؤلاء يعذرون إذا استبدت بهم الحيرة وأحبطوا، خصوصا أن ما تبثه وسائل الإعلام في مصر يدفع بقوة في ذلك الاتجاه؛ أما الناقمون فقد دب اليأس في نفوسهم منذ اللحظات الأولى التي أدركوا فيها أن المجتمع تخلى عنهم ولم يمنحهم ثقته، ولذلك فإنهم منذ ذلك الحين وضعوا نظارات سوداء على أعينهم وما برحوا يرددون في كل حين أن الحلم صار كابوسا وأن الثورة أجهضت وانتهت، لا لشيء إلا لأن أحلامهم الخاصة لم تتحقق. حتى إن إحدى الصحف تحدثت عن فشل رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل فور إعلان اسمه وقبل أن ينتهي من تشكيل وزارته! دائرة الشامتين أوسع من المحبطين والناقمين، وأقصد بهم أولئك الذين ينتظرون الأخطاء والعثرات، فيتصيدونها وينفخون فيها ويعممونها، ليصوروا للملأ أن الثورة، وكل ثورات الربيع العربي، كانت بلاء حل بالأمة، تمثل في سلسلة من الكوارث التي تعاقبت على المغرب والمشرق، حتى قرأت لأحد الكتاب الكويتيين قوله إن ما شهدته المنطقة هو «خراب» عربي ليس أكثر! لك أن تتصور أن ذلك رأي «الفلول» من أركان ومنتفعي النظام السابق، وهو أمر قد يكون مفهوما، إلا أن ما يثير الانتباه في هذا الصدد أن ذلك أيضا موقف بعض «الأشقاء»، سواء لأنهم ارتبطوا بمصالح خاصة مع النظام السابق أو لأنهم خشوا من أصداء الربيع في أقطارهم. وهي الأصداء التي ظهرت بقوة في تعليقات تويتر وفيس بوك، وقوبلت باستنفار الأجهزة الأمنية في تلك الدول، الأمر الذي انتهى باعتقال بعض المثقفين الناشطين وإسقاط الجنسية عن المواطنين منهم، إلى جانب تلفيق التهم لهم ومحاكمتهم بدعوى تشكيل تنظيمات سرية والسعي إلى قلب نظام الحكم، وهو ما تابعنا بعض تفاصيله في الأسبوع الماضي. لا أتحدث عن جماهير تندرج تحت هذا التصنيف أو ذاك لأن الأمر أهون من ذلك بكثير، وإنما أتحدث عن نخب عالية الصوت، بعضها من المثقفين المتحزبين، والبعض الآخر ممن ينتسبون إلى أهل السلطان الذين أغراهم الفراغ العربي بمحاولة التمدد والبحث عن أدوار في الساحة بعدما غاب عنها الكبار. واهم من يتصور أن الثورة المصرية بلا أخطاء أو أنها ولدت كاملة الأوصاف. وقد دعوت، في الأسبوع الماضي، إلى الاعتراف بأننا جميعا -وبلا استثناء- مشوهون من تجربة الثلاثين عاما الأخيرة التي اقترن فيها الاستبداد بالفساد. وأي متابع لوسائل الإعلام المصرية طوال الثمانية عشر شهرا الأخيرة يستطيع أن يضع يديه على قائمة النقائص والثغرات في الواقع المصري. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن إعلامنا ظل طول الوقت يتفنن ويبالغ في استعراض النصف الفارغ من كوب الثورة، الأمر الذي صور للبعض أنه ليس للكأس نصف آخر، وكان ذلك أحد مصادر الإحباط الذي سبقت الإشارة إليه. ولأن النصف الفارغ أخذ حقه وزيادة، فربما كان من الإنصاف أن نلقي نظرة على النصف الآخر المحجوب والمسكوت عنه. قبل نحو ثلاثة أسابيع (في 9/9)، نشرت صحيفة «التحرير» تعليقا لافتا للانتباه لزميلنا الأستاذ طارق الشناوي، قارن فيه بين لقاء المثقفين للرئيس محمد مرسي في 6 شتنبر الحالي وبين لقاء عشرة منهم مع الرئيس السابق قبل ثلاثة أشهر من خلعه (في 30 شتنبر عام 2010). وذكرنا بأن ثلاثة ممن حضروا اللقاء مع الدكتور مرسي كانوا ممن وقع عليهم الاختيار لمقابلة الرئيس السابق. وقال إن الثلاثة الذين التقوا بالدكتور مرسي انتقدوه، وقالوا له: «إنه يتحدث عن مدنية الدولة في حين أن ما يجري على أرض الواقع يؤكد أن الدولة تتجه، في كل مظاهرها، نحو الأخونة». وقارن الأستاذ الشناوي بين جرأتهم في مواجهة الدكتور مرسي، وصمتهم أثناء لقاء الرئيس السابق، وكيف أن بعض المثقفين قالوا في حضرته كلاما يخجل المرء من ذكره الآن، ومنهم من ظهر في أحد البرامج التلفزيونية بعد اللقاء، وظل يمتدح الرجل ويتغزل في خفة ظله وتواضعه. في حين أنه لم يكن بمقدور أي واحد منهم أن يفتح أمام الرئيس السابق فمه بكلمة نقد لعملية التوريث. اعتبر الأستاذ طارق الشناوي أداء المثقفين «شجاعة زائفة»، لكني خرجت من قراءة تعليقه بخلاصة إضافية وثيقة الصلة بنصف الكوب الملآن للثورة الذي نحن بصدده، لست في وارد التحفظ على نفاق بعض المثقفين وبطولاتهم الزائفة التي يدعونها الآن، لكنني قرأت في المقارنة بين اللقاءين تجسيدا للفرق بين الحاكم الإله والمواطن الحاكم، وكيف أن المثقفين تعبدوا للأول وانحنوا أمامه وعادوا إلى بيوتهم صامتين وحذرين. أما الثاني فقد هاجموه وانتقدوه وعادوا إلى بيوتهم فخورين ومطمئنين، ثم صاروا يتباهون في العلن بمواجهة الرئيس والتحفظ على أدائه. ما الذي يعنيه ذلك؟.. هو يعني أن الثورة أسقطت القداسة عن السلطان فضلا عن السلطة، وتلك نقلة تاريخية بكل المعايير. لقد صار السلطان واحدا من الناس وليس فوق الناس. وأفرق هنا بين القداسة الناشئة عن الخوف، وبين الهيبة القائمة على الاحترام. وأزعم أن رفع القداسة عن السلطان استصحب على الفور سقوط حاجز الخوف، واستعادة المجتمع لجرأته وثقته في نفسه. لا يقل عن ذلك أهمية أن يؤدي إسقاط القداسة والتعامل مع السلطان باعتباره واحدا من الناس، إلى استبعاد فكرة تأبيد السلطة أو توريثها وفتح الباب واسعا لأي واحد من الناس لكي يتطلع إلى رئاسة الدولة، وهو ما شهدناه في مصر حين وجدنا أحد الشبان الطموحين يؤكد، بين الحين والآخر، أنه رئيس مصر القادم، لكن ذلك ليس كل شيء، لأنه لا يزال في الجعبة ما يستحق الذكر والتنويه. لم أصدق أُذُنَيَّ حين سمعت حفيدا لي عمره تسع سنوات يقارن أثناء الانتخابات الرئاسية بين المرشحين الدكتور مرسي والفريق شفيق. وفهمت أن الموضوع كان محل مناقشة بين زملائه في المدرسة الابتدائية، وكان ذلك من الإشارات الدالة على عودة الروح إلى الشعب المصري الذي عاد أخيرا إلى السياسة بعدما أسقط من الحسبان وأقصي منها، وهذه العودة أسقطت بطاقة ال99 في المائة من الأصوات التي ظل السلاطين يشهرونها في وجوهنا كل حين، كما أسقطت احتكار العسكر للسلطة، وطوت صفحة اللون الواحد والحزب الواحد، وأغلقت الأبواب أمام «تقاليد» تزييف الانتخابات لصالح حزب السلطان وحوارييه. وتلك لعمري نقلات أخرى مهمة في تاريخنا السياسي. بعد الثورة ما عاد الحكم قدرا مكتوبا ووقفا على أناس دون غيرهم، وإنما صار اختيار الناس وقرارهم. ولأنه أصبح كذلك، فإن الحكام ما عادوا فوق المساءلة والحساب، على الصعيدين السياسي الذي بات مفروغا منه، والجنائي الذي أصبح سيفا مُصْلَتا على رقاب الجميع دون استثناء. والبلاغات التي أصبحت تنهال على مكتب النائب العام كاشفة عن المخالفات التي ارتكبها المسؤولون في ظل النظام السابق، تعد إنذارا لكل مسؤول آخر في النظام الحالي؛ ذلك أن الناس لم يتخلصوا من عقدة الخوف فقط، وإنما صاروا مفتوحي الأعين وشديدي الحساسية إزاء ممارسات السلطة بجميع مؤسساتها ورموزها. إطلاق سراح المجتمع واستعادته لحيويته رتَّبا مجموعة أخرى من النتائج المهمة، في مقدمتها ما يلى: - التأكيد على نجاعة التغيير السلمي وجدواه، الأمر الذي أغلق الأبواب أمام دعوات استخدام العنف في إحداث ذلك التغيير، وهو ما اعترف به المتحدثون باسم الحركات الجهادية والمجموعات القتالية التي لجأت إلى العنف في ظل النظام السابق لأسباب عدة في مقدمتها انسداد قنوات التغيير السلمي؛ - استعادة قيمة تظاهر الجماهير وخروجها إلى الشوارع والميادين، للتعبير عن احتجاجها بطريق سلمي. ورغم أن هذه القيمة يساء استخدامها في بعض الأحيان، فإن ذلك لا ينفى وجودها، علما بأن إمكانية ترشيد ممارسة تلك الاحتجاجات وترشيد تعامل السلطة معها تظل مفتوحة في المستقبل؛ - استيعاب التيارات الإسلامية في ساحة العمل السياسي المشروع، الأمر الذي يساعدها على إنضاج مشروعها وتطوير خطابها من ناحية، كما أنه يفتح الأبواب لإمكانية الإفادة من طاقاتها لتحقيق الصالح العام، الأمر الذي يطوي صفحة التنظيمات السرية بعد طي صفحة العنف؛ - حين أثبت المجتمع حضوره وأصبح صاحب الكلمة في تقرير مصير السلطة، فإن ذلك كان إيذانا بإنهاء حكم الأقلية واستعادة الأغلبية لحقها الذي سلب منها خلال العقود التي خلت. ولم يعد سرا أن احتكار الأقلية لصدارة السلطة والمجتمع خلال تلك الفترة لم يمثل انقلابا على الديمقراطية فحسب، وإنما أسهم أيضا في العبث بهوية المجتمع الحقيقية الذي أدى إلى مسخ تلك الهوية وتغريبها، ومن ثم تزويرها في بعض الأحيان. وهي الصورة التي جرى تصحيحها بعد الثورة، حين أجريت الانتخابات بحرية ونزاهة وجاءت النتائج محددة لحجم وأوزان مختلف القوى المجتمعية والسياسية الموجودة على الساحة. ذلك كله يحسب للثورة وليس للإخوان. وكنت قد أشرت في الأسطر الأولى إلى أن الثورة أصل والإخوان فرع، والثورة ملك لكل الشعب في حين أن الإخوان مجرد جزء وفصيل من الشعب. لذلك، فإنني تمنيت أن يظل ذلك التميز واضحا ومحسوما لدى الجميع. إلا أن البعض تسرع وخلط بين الاثنين، حين حمل الثورة بمشاعره وحساسياته إزاء الإخوان فحاكموها وأدانوها، حتى إضاءاتها وإشراقاتها تجاهلوها، فظلموا الثورة وبخسوها حقها حتى قرأنا نعيها في بعض كتابات المحبطين، فضلا عن الناقمين والشامتين. لا أدافع عن أخطاء وقعت، وإنما أدعو إلى الاعتراف بها والاعتذار عن بعضها، ولا أجد مبررا لليأس والقنوط مادمنا ملتزمين بقيم الحرية والديمقراطية، وقابضين على حقنا في المشاركة والمساءلة. وأذكر بأن زمن احتكار السلطة ولَّى وأن الثورة أدخلتنا عصرا جديدا آيته احتكار الشعب للشوارع والميادين وللفضاء السياسي كله. صحيح أن هذا الكلام انصب على مصر بالدرجة الأولى، لكنني أستطيع أن أقول بثقة إنه ينسحب على دول الربيع العربي أيضا، ولا يفوتني أن أذكر بأن الربيع ليس مقصورا على خمس أو ست دول فقط، لكن رياحه العطرة اجتاحت العالم العربي بأسره، وثبتت رؤيته في تلك الدول الخمس والست، لكننا نشم رائحته ونقرأ رسائله القصيرة والمحجوبة في بقية الدول.