إن مكمن الداء في المنظومة السياسية المغربية يرتبط، في العمق، بتراجع الفكرة الإصلاحية من خلال تراجع الأطر الحزبية التي كانت حاملة لها؛ وهذا التراجع بدوره يرتبط بتراجع المنهجية الديمقراطية، القادرة لوحدها على إنجاب نخبة فكرية وسياسية شابة قادرة على تجديد دماء الفكرة الإصلاحية وفتحها على المستجدات الفكرية والسياسية التي يفرضها النموذج العولمي. لذلك، نعتبر أن الحركية التي يعرفها حزب الاستقلال اليوم هي، في نفس الآن، حركية للفكرة الإصلاحية التي حملها حزب الاستقلال لعقود؛ وهذا، في الحقيقة، يبشر بمستقبل مغاير لمفهوم السياسة في بلادنا، لأن الديمقراطية قبل أن نطالِب بأن تكون خيار الدولة، يجب أن نطالب أولا بأن تكون خيار الأحزاب، وخصوصا الوطنية منها، الحاملة للواء الإصلاح السياسي والاجتماعي الرصين الذي لا يفرط في ثوابت الأمة والوطن. نقول هذا ونحن على تمام الوعي بالتحديات التي يمثلها حراس المعبد القديم الذين يستفيدون من وضعية «السطاتيكو» القائمة، حتى ولو كانت الاستفادة لا تتجاوز المصالح الفئوية الضيقة، الخاصة بأفراد أو فئات اجتماعية ضيقة. ولعل التخوف الكبير الذي يبديه هؤلاء ليرتبط بالتجدد الذي تعرفه نخبة الحزب، حيث دخلت على الخط فئات اجتماعية جديدة، من قطاعات اقتصادية ومهنية متنوعة؛ وهذا ما يشكل ضغطا كبيرا على الأقلية البورجوازية في الحزب، والتي تشكلت عبر اقتصاد الريع الذي كان يمنح كمقابل لتنازلات سياسية، تهم قضية الديمقراطية بشكل خاص. ولعل هذا الوضع هو الذي طبع مواقف حزب الاستقلال بالمهادنة طوال العقود الأخيرة، وخصوصا بعد انطفاء جذوة الكتلة الديمقراطية التي تشكلت أوائل التسعينيات، مما كان يمهد للموت الإكلينيكي لهذا التكتل السياسي الذي كان يبشر بمستقبل سياسي مغاير لوضعية التأزم التي يعيشها مغرب اليوم. ونحن هنا، لا نحمل المسؤولية كاملة لحزب الاستقلال، بل إن مجمل أحزاب الكتلة الديمقراطية مرت بنفس المسار، عبر تراجع الفكرة الإصلاحية، نتيجة سيادة مصالح فئوية ضيقة مرتبطة بأقلية بورجوازية طحلبية تفتقد العمق والجذور. ولذلك نرى أن النقاش المثار اليوم في حزب الاستقلال هو النقاش الحقيقي الذي يجب أن يسود كل مكونات الكتلة الديمقراطية، نقاش يضع الأصبع على مكمن الداء الحزبي، والذي ارتبط بتراجع المنهجية الديمقراطية وتعويضها بثقافة الإجماع التي تفرض نفس النخبة السياسية ونفس المنهجيات في التسيير والتدبير، مع ما يرافق ذلك من قتل لروح المبادرة الحرة التي لن تتحقق إلا عبر تجدد النخبة الحزبية. إن الرهان الذي يفرض نفسه اليوم، على نخبتنا الحزبية، يرتبط بالقطيعة مع نوع من الشرعيات المزيفة التي سادت لعقود، سواء تعلق الأمر بالشرعية التاريخية أو العائلية أو الرضى المخزني، وذلك لأن جميع هذه الشرعيات تضرب المنهجية الديمقراطية في الصميم، وتقتل بالتالي روح التجدد والتقدمة في المسار الحزبي. إن الإحصائيات المخجلة حول نسبة الشباب المسيس في المغرب لتعد أفضل مؤشر على التراجع المريع الذي تعرفه المسألة السياسية في بلادنا. وهذا الواقع أصبح، اليوم، يهدد بقوة الاستقرار السياسي في البلد، من خلال غياب نخبة حزبية قادرة على تسيير الشأن العام، وقادرة كذلك على النضال من أجل ترسيخ مبادئ الديمقراطية. ويمكن تفسير هذا التراجع، في العمق، بغياب المنهجية الديمقراطية التي يمكنها أن تشجع على تجدد النخب الحزبية، وبالتالي تحقيق التداول السلمي على تسيير شؤون الحزب. إن الفكرة القائلة بأن نفس الرجال لا يصلحون لجميع المراحل هي فكرة ذات جدوى في واقعنا السياسي الراهن، وذلك لأن التحول الذي تعرفه بلادنا يفرض على الأحزاب السياسية، بقوة، تجديد نخبها لمواجهة تحديات العصر، لأن ما يروج في ثقافتنا المغربية من مدح للنضج الرجولي، بما يمثله من حكمة ورزانة، أصبح أمرا متجاوزا في عالم اليوم الذي يفسح مجالا واسعا للشباب، بما يعنيه ذلك من فتوة وتجدد وحماس في العمل وشجاعة في المواقف وإقدام على التغيير. ونعود دوما إلى أصل الداء.. لا يمكن تحقيق هذا الرهان في غياب المنهجية الديمقراطية التي يمكنها لوحدها أن تحقق تجددا في النخبة الحزبية، عبر فتح المجال أمام التداول السلمي على قيادة الحزب ووضع برامجه السياسية. كاتب وباحث أكاديمي