طوال الأربعين عاما الماضية، كانت الأخبار الوحيدة التي تأتينا من سيناء ومنتجع شرم الشيخ الشهير، الذي يشكل عاصمتها غير المتوجة، محصورة في أنباء زيارات المسؤولين الإسرائيليين لمضيفهم الرئيس حسني مبارك أو سلفه محمد أنور السادات، ومشاركتهم في قمم عديدة برعاية أمريكية تحت عناوين مكافحة الإرهاب، وتوفير الحماية للمستوطنين الإسرائيليين، وتعزيز ثقافة التطبيع مع مصر، وما تيسّر من الدول العربية الأخرى. بعد الثورة المصرية ونجاحها في الإطاحة بنظام الرئيس مبارك، بدأت الأوضاع تتغير وتنقلب رأسا على عقب، وتحولت سيناء إلى منصة تنطلق منها عمليات المقاومة المسلحة ضد أهداف إسرائيلية. يوم الجمعة، هاجمت مجموعة مسلحة تجمعا للجنود الإسرائيليين قرب الحدود مع سيناء، كانوا يحرسون مجموعة من العمال، كانت -في ما يبدو- تبني سورا لمنع عمليات التسلل. الهجوم أسفر عن مقتل أحد الجنود الإسرائيليين واستشهاد المهاجمين الثلاثة، أحدهم فجر نفسه بحزام ناسف. نحن هنا لا نوحي بأن حكومة الثورة المصرية هي التي تقف خلف هذه العمليات أو تشجعها، فقد شهدت الأيام الأخيرة لحكم الرئيس مبارك عمليات هجومية ضد أهداف إسرائيلية في ميناء إيلات، كما جرى إطلاق العديد من الصواريخ باتجاه مستوطنات وتجمعات سكنية، وأخيرا وليس آخرا تفجير خط أنابيب الغاز المصري إلى كل من إسرائيل والأردن. الحكومة المصرية بذلت جهدا ملموسا لفرض سلطاتها على صحراء سيناء والقضاء على ما أسمته بالجماعات الإرهابية، مستغلة إقدام خلية مسلحة على قتل 16 جنديا مصريا والاستيلاء على عربتين مدرعتين واستخدامهما لخرق الحدود لمهاجمة أهداف إسرائيلية، ولكن الهجوم انتهى بمقتل جميع المهاجمين. الحملة العسكرية المصرية لفرض سيادة الدولة على صحراء سيناء حققت بعض النجاح، ولكنه لم يكن نجاحا كليا، بسبب مطالبة الحكومة الإسرائيلية لنظيرتها المصرية بسحب جميع مدرعاتها التي أرسلتها إلى المنطقة، ودون إذنها، والالتزام بنصوص الملاحق الأمنية في اتفاقات كامب ديفيد التي تحدد عدد الجنود والآليات العسكرية المصرية، وهو عدد صغير للغاية ومهين في الوقت نفسه. إسرائيل ترفض أي تعديل لهذه الاتفاقات وتجد الدعم الكامل من الإدارة الأمريكية، الأمر الذي يحلّ مصر من أي لوم في حال حدوث عمليات هجومية كتلك التي وقعت يوم الجمعة. وجاءت تصريحات الرئيس باراك أوباما التي وصف فيها مصر بأنها ليست بالعدو ولكنها ليست حليفا لأمريكا لتصيب الحكومة المصرية بحالة من الإحباط، تضاعفت أكثر بعد إعلان الكونغرس الأمريكي إقدامه على بحث إمكانية إعادة النظر في المساعدات الأمريكية لمصر. الانتقادات الأمريكية والإسرائيلية لمصر كانت تركز دائما على تساهل حكومتها تجاه مسألة الأنفاق التي يزيد عددها على 1200 نفق تحت الحدود المصرية مع قطاع غزة، باعتبارها المنفذ الذي تتسلل عبره العناصر المتشددة لتنفيذ هجمات ضد إسرائيل. السلطات المصرية دمرت هذه الأنفاق كليا، ومن المفترض أن تكون هذه الذريعة قد سُحبت من يد أصحابها. الهجمات الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، وكان آخرها قبل يومين من خلال طائرة حربية قتلت اثنين من قادة الصف الثاني في حركة حماس، تؤدي إلى توتير المنطقة لأنها تحرّض الجماعات الجهادية الإسلامية على الثأر والانتقام. الدبابات الإسرائيلية تتوغل بصورة شبه يومية في قطاع غزة، والطائرات تحتل أجواءه وتلقي بحممها على أبنائه، بينما يواصل المسؤولون العسكريون تهديداتهم باجتياح القطاع، حتى إن بعض الصحف الإسرائيلية تؤكد أن هذا الاجتياح بات وشيكا للغاية. إسرائيل هي التي دمرت عملية السلام، ونسفت حل الدولتين، واستفزت العرب جميعا بالتوسع في بناء المستوطنات وتهويد القدس، مستغلة انشغال المنطقة بمظاهرات الربيع العربي، ولذلك تتحمل المسؤولية الأكبر عن أعمال العنف؛ فمن غير المنطقي، من وجهة نظر الجماعات المتشددة، أن تقتل ما شاء لها القتل من الأبرياء، وتستولي على الأراضي دون أن يتم التصدي لها؛ فليس جميع الفلسطينيين والعرب مثل الرئيس محمود عباس وسلطته يديرون الخد الأيسر لمن يصفعهم على خدهم الأيمن. الجماعات الإسلامية المتشددة وصلت إلى ليبيا وحطّت الرحال في سورية وعززت مواقعها في العراق، ومن الطبيعي أن تصل إلى سيناء وتتخذها قاعدة للهجوم على الإسرائيليين، مصدر كل المشاكل والقلاقل وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط برمتها؛ فالشارع العربي انتزع السلطة من الحكومات، وبات هو الذي يضع الأجندات السياسية والأمنية، ويحدد قوائم الأعداء والأصدقاء في المنطقة، وإسرائيل تحتل مرتبة متقدمة جدا على القوائم الأولى، أي الأعداء. إسرائيل تخطط لبناء أسوار عازلة على الحدود، تماما مثلما فعلت في الضفة الغربية وقطاع غزةوجنوب لبنان، ولكن هذه الأسوار لن تحميها من غضب المسلمين، السور الوحيد الذي يمكن أن يحميها هو التوقف عن مجازرها وإهاناتها للعرب والمسلمين، وتحريض بعض العنصريين في الغرب ضدهم، ونسف عملية السلام من جذورها. معاهدات كامب ديفيد سرقت سيناء من مصر وصادرت سيادتها عليها، وها هي تعود إلى الجماعات المتشددة، وتتحول كقاعدة انطلاق للمقاومة ومصدر قلق للإسرائيليين. الجماعات الجهادية كانت وما زالت تتطلع إلى موطئ قدم على الحدود مع فلسطينالمحتلة للوصول إلى الأهداف الإسرائيلية، والانتقام من المجازر الإسرائيلية في حق أبناء الشعب الفلسطيني، ويبدو أن ثورات الربيع العربي التي أطاحت، وستطيح، بالأنظمة الديكتاتورية المرعوبة من القوتين الأمريكية والإسرائيلية، بدأت تحقق أمنية هذه الجماعات بسرعة أكبر من كل التوقعات. المنطقة العربية أصبحت مفتوحة على مصراعيها أمام الجماعات الجهادية، ومخازن الأسلحة تحت إمرتهم دون عوائق، وخاصة من ليبيا؛ ومن الطبيعي، بل والمنطقي، أن يصل هؤلاء إلى سيناء حيث التواصل الجغرافي البري مع ليبيا. إسرائيل باتت محاصرة من مقاومة شرسة مدججة بالسلاح في الشمال، أي جنوب لبنان، وأخرى تتبلور على حدودها الجنوبية التي تمتد لحوالي 400 كيلومتر، والهدوء الذي تمتعت به لأكثر من أربعين عاما بدأ يتبخر تدريجيا.. إنه كابوس قد يحرم قادتها من النوم لسنوات، إن لم يكن أكثر. العالم العربي يتغير.. العالم الإسلامي يتغير أيضا، إسرائيل هي الوحيدة التي ترفض التغيير وقراءة الخريطة الجديدة بشكل جيد ومتعمق، ولذلك قد تدفع ثمنا غاليا بسبب إنكارها لهذا التغيير، وكل من يدعمها، وخاصة الولاياتالمتحدة.