تعتبر الجريمة السياسية من أقدم الجرائم التي شهدتها البشرية، فقد ارتكب هذا النوع من الجرائم في الماضي، ولازال يرتكب في وقتنا الحاضر، كما أنه سيرتكب في المستقبل، رغم المجهودات المبذولة لمكافحته والوقاية منه. فالحديث عن الجرائم السياسية هو عبارة عن حديث عن السياسة في نفس الوقت، بمعنى أن أية محاولة لتصنيف جريمة معينة ضمن الجرائم السياسية تعد في حد ذاتها عملا سياسيا؛ وما يزكي هذا الطرح هو أن جميع الجرائم تعتبر في الأصل جريمة سياسية طالما أن الجريمة بصفة عامة تهدد في العمق كيان الدولة. ويكتسي تناول موضوع الجريمة السياسية أهمية نظرية وأخرى عملية؛ فأما الأهمية النظرية فتتجلى بالأساس في ندرة الدراسة القانونية التي تطرقت بالبحث والتحليل لموضوع الجريمة السياسية، إذ يلاحظ أنه لا يحظى بأهمية كبيرة لدى علماء الإجرام وفقهاء العلوم السياسية وغيرهم؛ وأما أهمية الموضوع العملية فتتجسد من خلال الآثار الوخيمة للجريمة السياسية وانعكاساتها السلبية على سمعة البلد. فإشكالية الجريمة السياسية لا تكمن في صعوبة تعريفها وتحديد مفهومها بقدر ما يكمن التعقيد في التأويل الذي ستعرفه خلال تصنيفها، خاصة وأن التأويل يعد صناعة ويهم بالأساس علاقة الجريمة بالسياسة؛ فالتأويلات التي تكون الجريمة السياسية موضوعا لها تكون صائبة في حالة استحضار تاريخ البشرية ومعاناتها وتاريخ الأديان وتاريخ الحروب وبعض الأحداث والصراعات والقضايا، من قبيل قضايا العبودية والرق والحرب الباردة وسقوط جدار بيرلين وأحداث الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية وأحداث روندة وقضية أول رئيس أسود في جنوب إفرقيا وغيرها. ومن باب تحصيل الحاصل، فإن الجرئم السياسية تنقسم إلى نوعين: - الجرائم السياسية التي ترتكب من طرف أجهزة الدولة؛ - الجرائم السياسية التي ترتكب من طرف معارضي أجهزة الدولة. فبالنسبة إلى النوع الأول والذي يدعى أيضا «الجرائم البيضاء»، أي الجرائم التي لا تطالها يد العدالة لكونها تقترف من طرف أشخاص نافذين، يعمدون بالأساس إلى نهب ثروة البلد للحفاظ على سلطتهم وموقعهم ومكانتهم؛ فالمتورطون في هذا النوع من الجرائم يستغلون القوانين الخاصة التي تحكمهم وتيسر لهم الإفلات من العقاب في أغلب الحالات على اعتبار أنهم، علاوة على ذلك، يحتكرون السلطة فتتحول مهامهم التي تتمثل في تطبيق القانون إلى خرقه تحت تبريرات وهمية وغير وهمية؛ وتأخذ هذه الجرائم عدة أشكال من قبيل اختلاس المال العام والتهرب الضريبي والتعذيب وتبيض الأموال... إلخ. أما بالنسبة إلى النوع الآخر من الجريمة السياسية فيكون الباعث والدافع الأساسي إلى اقترافه ذا طبيعة سياسية وإيديولوجية، إلى درجة أن مرتكبيه يعتبرون إقدامهم على ذلك بمثابة واجب يسعون من ورائه إلى تحقيق التغيير على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، في حسبانهم، خلافا لتصورات الحكومة أو السلطة القائمة. كما أن هذه الجرائم تستهدف ضحايا ذات طبيعة خاصة، وترتكب في ظروف وملابسات محددة وتأخذ عدة أشكال من قبيل الإرهاب والمس بأمن الدولة الداخلي والخارجي والتجسس والقتل... إلخ. وللإشارة، فإن هذا النوع من الجرائم يرتكب من قبل أشخاص عاديين، ومن طرف مجموعة من الأشخاص، ومن طرف دولة تكن العداء لدولة أخرى. ومكافحة الجرائم السياسية والوقاية منها تظهر من خلال الإرادة السياسية لبعض الدول التي بادرت إلى المصادقة على المواثيق الدولية التي لها ارتباط بهذا المجال، إضافة إلى سنّ قوانين وطنية تنسجم معها، ونذكر هنا على سبيل المثال: قانون تجريم التعذيب؛ قانون الدولي الإنساني؛ قانون التصريح بالممتلكات؛ قانون مكافحة غسل الأموال؛ قانون تجريم التدخل والتأثير والضغط على القضاة والقضاء؛ قانون الحصول على المعلومة؛ قانون التنصت على المكالمة الهاتفية ومراقبة الرسائل الإلكترونية. وختاما، فإن فهم واستيعاب مدلول الجريمة السياسية يفرض الوقوف على كيفية اشتغال نظام العدالة الجنائية. وقد صدق من قال: كن واقعيا واطلب المستحيل.