من له مصلحة في الالتفاف على الآمال التي كانت معقودة على ربيع الاحتجاجات؟ ومن له مصلحة في العمل على إعادة إنتاج الاستبداد بعدما اعتقد الجميع أن الجماهير العربية وضعت، باحتجاجاتها، نهاية له ولرموزه؟ ومن له مصلحة في دفع الناس إلى الاعتقاد بأن البديل المبشر به هو أسوأ بكثير أو، على الأقل، لا يختلف في شيء عما كان قائما في السابق؟ ومن له مصلحة في تكريس فكرة أن ربيع الاحتجاجات هو ربيع الإسلاميين وليس ربيع الديمقراطية؟ إن هذه التساؤلات الفرعية تنتظم داخل سؤال مركزي: من له مصلحة في إعادة إنتاج الطائفية؟ فهذا السؤال أضحى يفرض نفسه في ظل السجالات والصراعات التي تشهدها العديد من الدول العربية، حيث تحول التعدد المذهبي إلى أحادية طائفية ستعصف بكل الجهود التي بذلت من أجل الاتفاق على حد أدنى من المبادئ الناظمة للعيش المشترك داخل ما اصطلح على تسميته بتجربة الدولة الوطنية أو الدولة القطرية في المجتمعات العربية. يبدو العالم العربي طائفيا أكثر من ذي قبل، طائفية تعبر عن نفسها من خلال مستويين: مستوى عمودي بين مسلمين ومسيحيين، ومستوى أفقي هو أكثر تعقيدا أو خطورة من المستوى الأول حيث الانقسام بين شيعة وسنة، من جهة، والانقسام بين سنة وسنة، من جهة أخرى. لنرجع إلى السؤال المركزي الذي انطلقنا منه: من له مصلحة في النفخ في رماد الطائفية؟ إن الجواب لا يمكن أن يتأسس على التركيز على البحث عن إراحة الضمير من خلال كيل الاتهامات للخصوم أو المنافسين، فالمسؤولية مشتركة، وأكيد أن جهات في الداخل أو الخارج تساهم في إعادة إنتاج الطائفية، معتقدة أنها تساهم في بناء دولة الحداثة والمواطنة. تتحمل الأنظمة الحاكمة في بعض الدول العربية مسؤولية إثارة النعرات الطائفية لكونها تستفيد منها وفي النهاية تخدم مصالحها. يسعى نور المالكي في العراق، وهو الذي يقود حزب الدعوة الشيعي ويقود الحكومة، إلى بناء حكم طائفي، فقد أجهز على كل التوافقات التي بني عليها عهد ما بعد صدام حسين. هناك من يرى أن تلك التوافقات نفسها هي المسؤولة عن الوضع الحالي ما دامت قد كرست منطق المحاصصة الطائفية، وأن تركيبة المؤسسات الحاكمة ليست محكومة بمنطق سياسي بقدر ما هي محكومة بمنطق طائفي، وبالتالي فإن هذه التوافقات لن تفضي، على المدى المتوسط أو على المدى البعيد، إلى ولادة ديمقراطية سياسية وإنما ستؤدي إلى تكريس موازين قوى طائفية. وعليه، تغدو الطائفة التي تشكل الأغلبية هي الطائفة الحاكمة، والتي لن تكون، في هذه الحالة، إلا الطائفة الشيعية. إن المتتبعين لتطور مسار تشكل النظام العراقي بعد 2003 كانوا يدركون أن الوصول إلى مرحلة النظام السياسي المتجاوز للطائفية يحتاج إلى الكثير من الوقت، ولكنهم كانوا يعتقدون بإمكانية قيام نظام طائفي مفتوح تتعايش داخله كل الطوائف وتُضمن داخله حقوق الأقليات، غير أن التحولات التي يشهدها العراق في ظل حكومة نور المالكي تفيد بأن بلاد الرافدين تتجه نحو تكريس نظام طائفي مغلق، فحكومة المالكي تسارع الزمن من أجل إقصاء السنة، وأكيد أن الصراع بين المالكي وطارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية، يمكن وضعه في هذا السياق؛ فاتهام هذا الأخير بكونه يقف وراء العديد من العمليات الإرهابية التي حصدت ولا زالت تحصد مئات الأرواح من العراقيين المنتسبين إلى الطائفة الشيعية هو اتهام يروم، في آخر المطاف، تأجيج الصراعات الطائفية وربط الإرهاب بالمكون السني. يعمل النظام السوري في عز أزمته على توظيف الورقة الطائفية، فالخطاب الرسمي يشدد على الطابع الوهابي للمعارضة المسلحة في اتهام صريح للمملكة العربية السعودية باعتبارها ممولة لهذه المعارضة وداعمة لها. وهذا التوظيف يختزل ما يجري في سوريا في كونه صراعا بين تيار سلفي وتيار شيعي، وذلك عبر منحيين: منحى واسع للحصول على دعم قوى شيعية من خارج سوريا، كإيران وحزب الله وشيعة العراق؛ ومنحى ضيق يجعل هدف السلفيين متجسدا في استهداف الطائفة العلوية الشيعية التي ظلت تحتكر مصادر الثروة والقرار رغم كونها تشكل أقلية. إن الأمر الذي يسترعي الانتباه هو هذا التحول الذي طرأ على مواقف الطائفة العلوية التي يبدو أنها أصبحت رهينة هذا التوظيف الطائفي لوضعها، خاصة وأن هذه الطائفة كانت سباقة منذ عقود إلى مواجهة الطائفية واندمج أبناؤها في التنظيمات اليسارية وكانوا من أشد المدافعين عن الخيارات العلمانية، وهناك من يقول إن انحيازهم إلى تلك الخيارات كان بسبب وضعهم كأقلية داخل المجتمع، وبالتالي فقد حاولوا التماهي مع إيديولوجيات واعتماد خيارات تجعلهم يستفيدون من وضعية متساوية مع تلك التي كان يوجد عليها باقي أعضاء المجتمع، وبالتالي فإن سلوكهم في الماضي لم يكن مختلفا عن سلوك الأقليات الأخرى في العالم العربي أو في العالم الإسلامي، كالطائفة الشيعية العلوية في تركيا أو الطائفة الشيعية الدرزية أو الطائفة الشيعية الإثنا عشرية في لبنان أو الطائفة المسيحية؛ حيث كان نشطاء هذه الأقليات هم المبشرون بالإيديولوجيات التي تضمن لهم وضعا متكافئا، وفي مقدمة تلك الإيديولوجيات توجد الإيديولوجية القومية. كيف تحولت الطائفة العلوية -التي استفادت من خياراتها العلمانية زمن الانتداب الفرنسي الذي مكنها من امتلاك مفاتيح الاقتصاد والثروة وسلمها زمام المؤسسة العسكرية التي التحق بها أبناؤها بكثافة ليصل أحدهم إلى قيادتها وقيادة الدولة في شخص حافظ الأسد- إلى أقلية مغرقة في نزعتها الطائفية؟ بصرف النظر عن أسباب هذا التحول، فإن هذه الأقلية الحاكمة أصبحت، سواء بإرادتها أو بغير إرادتها، طرفا في لعبة الطائفية التي تشكل ردة، سواء على المستوى الفكري أو على المستوى السياسي. ركز النظام الحاكم في مملكة البحرين هو الآخر على الورقة الطائفية، فاحتجاجات الشارع لم ينظر إليها باعتبارها نابعة من رغبة في توسيع مجال ممارسة الحريات الفردية والعامة أو رغبة في توسيع دائرة اتخاذ القرار حتى لا يظل مقتصرا على أفراد عائلة واحدة، بل اعتبرت تلك الاحتجاجات نابعة من أسباب طائفية، حيث تسعى الطائفة الشيعية -وهي التي تشكل الأغلبية- إلى الاستقواء بإيران لإقامة حكم ولاية الفقيه في هذه المملكة. وانطلاقا من هذه الرؤية الرسمية، يسمح النظام الحاكم لنفسه بممارسة استقواء طائفي مضاد من خلال الاستعانة بخدمات المملكة العربية السعودية التي تدخلت في المملكة الصغيرة باسم مجلس التعاون الخليجي في إطار قوات درع الجزيرة.