تحرص السينما الإيطالية دائما على تقديم الجديد، مستفيدة من توجه السينما الشاعرية التي شكلتها على مدار تجربتها بالرجوع إلى كبار تجاربها الفنية من قبل أعمال فيسكونتي وبازوليني وروسيليني، والذين صنفهم النقد ضمن تيار السينما الواقعية الإيطالية. ضمن المنحى الاستبطاني للشخصية المراهقة يسير فيلم «أول أيام الشتاء» للمخرج الإيطالي الشاب ميركو لوكاطيلي، وهو فيلمه الأول في محاولة منه لحكي قصة، هي في الحقيقة قصة شباب على أعتاب سن المراهقة. يعرف فيسكونتي الواقعية في التالي: «تتلخص الواقعية في تقديم فيلم يحكي حكاية، دون أن يعطي أي انطباع بأن ثمة أحداً يحكي الحكاية»، وهذا ما نلمسه في الفيلم الإيطالي «أول أيام الشتاء»، حيث نجد عدة عناصر مبثوثة في طيات الفيلم تؤكد أن الفيلم ينتمي حقيقة إلى السينما الواقعية من خلال طريقة التصوير في المواقع الفعلية والابتعاد عن الاستوديوهات، وفي خلو الحوار من اللغة الأدبية الإنشائية، فحوارات الفيلم مباشرة ومختصرة، والممثلون غالبا ينطقون بأقل الكلمات وشخصياتهم صامتة للغاية، في الوقت الذي لم يعتمد فيه المخرج في تصوير فيلمه على الحيل السينمائية في الإضاءة وفي حركة الكاميرا. يطرح فيلم «أول أيام الشتاء» موضوع المرحلة الانتقالية الدقيقة من سن الطفولة إلى سن بداية الشباب، ففي فترة المراهقة هذه تظهر الكثير من النزوعات المتعارضة، وتبدأ الكثير من علامات ومقومات الشخصية في التكون. ينهل الفيلم من الإرث السينمائي للسينما الإيطالية، ويوظف قصة بسيطة بعيدة عن التكلف، قصة تجري في قرية وفي مدينة، وفي حي ودار.. فالمراهق فاليرمو الذي يعيش رفقة أمه وأخته الصغيرة، تنفتح مداركه على نزوعات عصابية تجاه شخصيته الضعيفة، فيحاول جاهدا أن يكون في المستوى المثالي للشاب القوي المفتول العضلات، في المرحلة الانتقالية الحرجة من تكوين شخصية الفرد، تلك المرحلة التي تشكل الوجود الفعلي للذات الفردية وللمجتمع. لكنه في طريق اكتشاف الشخصية، سيصطدم فاليرمو بحقائق أخرى لشباب آخر يحاولون إثبات ذواتهم بطريقتهم الخاصة، من خلال أفعال شاذة ولوطية. هذا الاكتشاف المثير وغيره من الاكتشافات، ستشكل مجالا من مجالات الاستيهامات الجنسية، التي لن تنتهي على خير، إذ سيتسبب تطفل وفصول فاليرمو في مقتل أحد المراهقين الذي انتحر أو قتل ووجدت جثته مرمية في القناة المائية للقرية، كما سينشب شجار بين فاليرمو والشاب الآخر سيؤدي هو بدوره إلى نتيجة كارثية أخرى، بمقتل الشاب على يد فاليرمو بعد شجار عنيف وضربة خاطئة. هذا هو المسار العام لحكاية فيلم «أول أيام الشتاء»، لكن هناك بطبيعة الحال حكايات أخرى، من بينها حكاية أخته الصغيرة المتيمة بتربية القطط والأرانب، بسبب افتقادها للحنان العائلي، وقصة الأم التي تضع ماكياجا وتخرج ولا نعرف إلى أين، وحكاية مدرب السباحة الذي يعلم الشباب السباحة في نادي القرية، ثم هناك، وهذا هو الأهم، القوة الهائلة والتصويرية للطبيعة، ولنهاية فصل الخريف وبداية قدوم الشتاء من خلال التركيز على الأشجار الطويلة العارية من أوراقها، في إشارة إلى خريف الإنسان وإلى عراء المشاعر وقوة الاغتراب داخل الذات، حتى إن الفعل الشاذ بين المراهقين في دش قاعة الرياضة ليس إلا نتيجة لغياب الحنان ولفقدان «لا فيكسيون» في عالم اليوم، لكن المخرج كان من الذكاء بحيث لم يتسامح مع الفعل الشاذ، حتى وإن كان قد أفرد لقطة واسعة المساحة تتعدى أكثر من دقيقتين في تصوير المشهد الإيروتيكي الشاذ في الدش، دون أن يسقط في تسطيح جنسي كما في أفلام البورنو. يتساءل المشاهد: ماذا لو لم يمت المراهقان في الفيلم، وأي حياة ستكون لفاليرمو بعد حادثة القتل الخطأ؟ ثم ما معنى التركيز على حكاية صغيرة في فيلم يعتبر من بين أهم أفلام مسابقة المهرجان، لأنه يعكس بعمق شاعرية السينما الإيطالية وعدم الانجراف وراء الإبهار الزائف، في الوقت الذي يمكن فيه التقاط عناصر السينما من الطبيعة ومن المتاح ومن الواقع الأغرب من الخيال. من جهة أخرى، عرض أول أمس في المسابقة الرسمية فيلم «دموع أبريل» للمخرج الفنلندي أكو لوهيمييس، ويتطرق إلى مرحلة الحرب الأهلية في فلندا في سنة 1918، وإلى الجرائم التي اقترفت بين الحمر والبيض، وهو فيلم عن مرحلة مهمة من مراحل تاريخ البلدان الجرمانية الحديثة.