قد يثير لون الدماء الأحمر القاني هلع السياج الأجانب، وقد يُفزعهم مشهد تناثر الأشلاء وخروج الأمعاء، لكن كل هذا لا يثير المغاربة، فنحن الشعب الوحيد في العالم الملقح ضد فوبيا الموت، نقف «مخنزرين» في وجه هادم اللذات، أي الموت، مسلحين بقدرة عجيبة على التعايش مع الدماء التي تُخضب الطرقات وبقايا الجماجم والعظام المهشمة والملتصقة بالإسفلت. «كسيدة خايبة»، كلمتان فقط نعلق بهما على حادثة سير مميتة، وينتهي كل شيء. أقصى ما يمكن أن نفعله هو أن ننتظر نشرة نهاية الأسبوع لتقرأ علينا المذيعة بلاغا رتيبا يقول: «وصل عدد قتلى حوادث السير لهذا الأسبوع إلى كذا وكذا فيما بلغ عدد الجرحى كذا وكذا... والسبب هو السرعة المفرطة وعدم انتباه السائقين». أفظع «كسيدة» في هذا الوطن هي هذا البلاغ الجاهز المكتوب قبل أن تظهر نتائج التحقيق الذي ينتظر، كل أسبوع، من يملأ فراغه التالي. السرعة وعدم انتباه السائقين هما كلمتا السر اللتان يمكن أن نُخرس بهما الألسن ونحسم بهما الجدل ونبعد بهما عنا المسؤولية ونلقيها على عاتق أموات راحوا ضحية أخطاء وتقاعس مسؤولين. في دولة مثل الإمارات تتحرك الهواتف ويكثر الهرج قبل نشر خبر حادثة سير أودت بحياة بضعة أشخاص فقط، لأن الأمر عندهم فضيحة ومشهد مرعب يرسم صورة قاتمة عن البلد. هنا حيث تغرب الشمس، تحصل ثلاث حوادث سير في يوم واحد، بمراكش وورزازات وسطات، يموت فيها قرابة الخمسين شخصا ويصاب الآخرون بعاهات مستديمة، ولا شيء يحدث، فالخبر عاد جدا ومكرور. في دول تحترم نفسها، يستقيل المسؤولون بعد وقوع حوادث سير فظيعة يظهر، بعد التحقيق، أن رداءة الطرق وتقصير القائمين على تشييدها ضمن أسبابها. إن المطلع على تعليقات المغاربة والأجانب عبر موقع «الفايسبوك» ليخجل من نفسه وهو يقرأ تعاليق تشبه المغرب بسوريا، فالبلدان معا سيان، أحدهما يرأسه «دراكولا» متعطش للدماء والآخر لا حاجة به إلى سلاح أو حرب أهلية، وحدها سيارات وحافلات وممرات رديئة تلفّ الجبال أو طرق سيارة أضيق من أزقة ضواحي باريس تفي بالغرض. أما كان لبناء ممر «تيشكا» بين مراكش وورزازات، والمعطل من أيام ليوطي والقايد الكلاوي و«بوحمارة»، أن يجنبنا نكبة أول أمس التي قضى فيها أزيد من 42 شخصا نحبهم؟ أما كان أولى أن ننظم قطاع النقل الطرقي ونفرض على سائقي الحافلات احترام العدد المسموح به من الركاب عوض نقاشات فارغة حول «الكريمات»؟ هل يجب أن ندخل موسوعة «غينيس» في عدد قتلى حوادث السير أو أن تزاحم مشاهد حوادثنا لقطات قتل مقززة على شرائط «فاص آ لا مور» حتى نتحرك؟ كم من زعيق يكفي لتبرير هدر الدماء؟ كم من مناظرة ومائدة مستديرة ومستطيلة ومربعة يجب أن نعقد حتى يصير القتل على الطرقات حدثا استثنائيا؟ لن نفاجأ إذا وجدنا أن مجموع عدد قتلى حوادث السير في المغرب خلال السنين الأخيرة يفوق ما قتله المستعمرون الفرنسيون والإسبان و«البرتقيز» والرومان و«الوندال» وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي؛ كما أنه لا داعي إلى الاستغراب إذا لم يتم الإعلان عن حداد وطني، فلو كنا سندعو إلى ذلك عند كل حادثة سير لصارت كل أيامنا حدادا ولظل علم البلاد منكسا على الدوام. الموت على قارعة الطرقات وعند منعرجات الممرات الجبلية وفي عرض الطرق «المعاقة» وغير السيارة في المغرب أضحى ينافس السرطان والسيدا والسل، حتى صارت «موتة الله» استثناء، مع العلم بأن كل الموت من الله. حتى الأجانب صاروا يموتون على طرقاتنا وهم قاصدون بلهفة مدن بلد قيل ذات يوم إنه الأجمل في العالم، حتى بات أجلى خطر يتهدد السياحة بهذا البلد هو أن نوزع «كارطبوستالات» على أجانب خلفها كُتبت دعوات إلى الموت بالحبر السري. فشلت مدونة السير وتعوقت مشاريع مد الطرق السيارة بسبب الأزمة الاقتصادية، ولم تعد اللجنة الوطنية لحوادث السير سوى عبارة تتكرر في الميزانيات العامة السنوية بجوار رقم كبير. رباه، كل شيء في هذا البلد يتعرض لحوادث سير.. حتى المخططات الخماسية والسداسية والسباعية والأوراش الكبرى والصغرى والقاصرة والتي ما زالت ترضع من المال العام. هل وجب على الناس، بعد كل هذه الدماء وصور الجثث، أن يمكثوا في بيوتهم ويتنقلوا راجلين أو على الجمال والبغال حتى يأمنوا على أرواحهم؟