بعد أن تبين للجميع رويدا رويدا أن مسار المجلس الأعلى للحسابات قد وصل إلى الطريق المسدود بفعل تراكم عوامل داخلية وخارجية، أحسنت السلطة العليا صنعا بإنجاز فعل التغيير الذي وإن كان متأخرا فإنه نزل بردا وسلاما على جميع أصحاب الشأن داخل المجلس وحوله وحواليه؛ فما هي التحديات التي يتعين الآن وهنا رفعها من قبل الوافد الجديد على رئاسة المجلس والتي لا مناص من التصدي لها إن كانت هناك، فعلا، إرادة للتغيير. نعتقد جازمين أنها أمام الامتحان حاليا: التحدي الأول: تصفية الجو الداخلي إن قوة المجلس هي في قوة موارده البشرية، قضاة وموظفين؛ فيتعين على السيد جطو تصحيح جميع الخطايا الموروثة عن سلفه في هذا المجال من خلال الكف عن استعمال الترقيات والتعويضات كوسائل للابتزاز أو تصفية الحسابات، كما يتعين التسريع بإخراج النظام الأساسي لموظفي المحاكم المالية، بمن فيهم كتاب الضبط، إلى الوجود والمساواة والشفافية في توزيع المهام الخارجية وفي التوظيف والتعيين في مناصب المسؤولية... التحدي الثاني: تصحيح وتوضيح هوية المجلس سبق لي أن صرحت، في حوار نشرته «هسبريس» في التاسع من ماي 2011، بأن المجلس يفقد رويدا رويدا هويته ورسالته الأصلية ويتحول تدريجيا إلى مفتشية ممتازة، همّها افتراض وجود مخالفات والذهاب للكشف عنها ثم إفراغ اليد منها من خلال رمي الكرة في ملعب وزير العدل والحكومة. وهذا ليس هو المقصود من خلق المحاكم المالية بحسبانها أجهزة عليا للرقابة والمحاسبة تروم إشاعة قيم وقواعد الرقابة والمحاسبة والشفافية وسيادة القانون كأسس للوقاية من الفساد وكآليات لاستنبات معايير وأدوات الإصلاح البنيوي القمين بمحاصرة البيئة التي يعشش فيها الفساد، وليس دوره الأساسي هو مكافحة الفساد والبحث عن الفاسدين، فهذا دور هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، وإلا فإن الخلط بين وظيفة تحسين الحكامة ومكافحة الفساد سيؤدي إلى الفشل في الهدفين وفي ضياع الموارد والاستخدام المزدوج للمؤسسات، وآنذاك يتعين دفن المجلس وهيئة مكافحة الفساد معا... التحدي الثالث: إعادة الاعتبار إلى القانون وحكم المؤسسات هل الغاية تبرر الوسيلة في عمل الجهاز الرقابي أم إنه بالعكس يتعين عليه أن يعطي القدوة والمثال في مراعاة القواعد والمساطر القانونية في كل صغيرة وكبيرة وتفعيل العمل المؤسسي الداخلي، وكما سبق أن كتبت فإن المجلس لم ينشر حكما قضائيا واحدا، مع العلم بأن بإمكانه ذلك قانونيا وإلا فأين هي قرارات الاجتهاد القضائي المالي، فعوض نشر التقارير مصحوبة بالقرارات، أي الرقابة والعقاب معا، يكتفي المجلس بنشر التقارير بشكل متصرف فيه ويوحي بالتجريم أكثر من الإصلاح والتقويم ودون إتباعه بقرارات التغريم الفعال، ولاسيما إرجاع الأموال المطابقة للخسارة التي تتكبدها المرافق العمومية. من جهة ثانية، لم يسبق للمجلس أن قام بمهمة تقييم واحدة تستهدف دراسة الآثار السوسيو اقتصادية للبرامج والسياسات العمومية؛ كما لم يسبق له أن طبق مساطر التسيير بحكم الواقع بالرغم من أن التسيير العمومي، ولاسيما في المجال المحلي، يعج بالمئات من الحالات... وهي مساطر تستهدف إرجاع الأموال العمومية دون الحاجة إلى التجريم وإشاعة الرعب في أوساط العاملين في القطاع العمومي والمتعاملين معه. ثم يتعين تحريك دولاب الحكامة الداخلية المشلول بالمجلس، فعمل المؤسسات لم يظهر له أثر حتى الآن، ولاسيما هيئة الغرف المجتمعة المختصة في الاجتهاد القضائي والمسطرة ونشر الأحكام وغرفة المشورة المختصة في المناقشة والمصادقة على التقارير السنوية للمجلس. التحدي الرابع: تصحيح العلاقة بالمحيط المؤسساتي هل يمكن للمجلس أن يغرد خارج السرب أو أن يعلن معركة دونكيشوتية مع الفساد دون تنسيق وتفاعل مع مكونات منظومة المراقبة والمحاسبة ومكافحة الفساد، وهي البرلمان والحكومة ووزير العدل ومعه الجهاز القضائي وهيئة مكافحة الفساد؟ بالطبع لا يمكن ولا يعقل ذلك، وعليه يتعين إعادة ترميم العلاقة المعطوبة بالبرلمان والكف عن التعامل مع نواب الأمة، ولاسيما في ظل الدستور الجديد، كطلبة جامعيين؛ ونفس الأمر مع وزير العدل، وتجسير روابط التعاون المنهجي مع هيئة مكافحة الفساد.. ومن دون ذلك، فإن المجلس سيظل يدور في مكانه أو يعاود نفس النغمة القديمة كالأسطوانة المشروخة... وسينتهي به الأمر إلى فقدان الثقة، وتلك هي الطامة الكبرى. التحدي الخامس: تصحيح العلاقة بالصحافة إذا كان الدستور الجديد قد خطا خطوة جبارة بالمنظومة الرقابية العليا على المال العام نحو مفهوم المراقبة الديمقراطية للحكامة، فإن هذه الخطوة لن تكتمل أبدا خارج الانخراط الواعي والمسؤول للصحافة في مجهودات الدولة الرامية إلى تفعيل الرقابة والمحاسبة وربط المسؤولية بالمحاسبة. ولكن يتعين على المجلس من باب أولى أن يقوم بدوره في الانفتاح على الصحافيين وتزويدهم بكل ما من شأنه تصحيح المفاهيم المغلوطة أو الأخبار غير الدقيقة، وما أكثر شيوعها، حول طبيعة وهوية ووظائف وفلسفة عمل المحاكم المالية، فماذا سيضير هذه المحاكم إن لم يكن ينفعها تنظيم أبواب مفتوحة وندوات مشتركة مع الجامعات وإصدار مجلات ونشرات تنويرية... ودعوني أختم بالقول إن جهاز الرقابة والمحاسبة ليس لديه ما يخفيه حول معايير عمله، وعليه أن يتجنب الوقوع في وضع المشتبه فيه وأن يعطي القدوة والمثال في تبني الحكامة الجيدة الرشيدة وفقا لما ورد في توجيهات واضحة للملك سبق أن أبلغها الرئيس السابق للقضاة، لكنه بقي مع الأسف عند حدود التبليغ ولم يتجاوزه إلى التنفيذ. فهل سينتقل القادم الجديد لرئاسة المجلس من طور التبليغ إلى طور التنفيذ؟ ذلك ما نتمناه ونتوقعه من السيد ادريس جطو، فلننتظر ونر. *خبير دولي في الرقابة والمحاسبة رئيس مركز الأبحاث والدراسات حول الرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد وعضو شرفي بنادي القضاة