خرج المقدمون والشيوخ عن صمتهم وتمردوا على لغة الانصياع التي كانت تكبلهم، وقرروا التفكير بصوت مرتفع والاحتجاج جهرا ضد أوضاعهم المهنية التي تصنفهم في المراتب الأخيرة في سلاليم الإدارة العمومية.. كسر أعوان السلطة جدار الصمت وأعلنوا التمرد بعد عقود من «التمرميد» في تلابيب السلطة. من مدينة العبور صدر بيان طانطان الذي عبَر به المقدمون والشيوخ من ضفة اليأس إلى ضفة الأمل، رغم أن السلطة، التي لطالما نذروا حياتهم لها، كادت أن تنسف تجمعهم التأسيسي وتحرق مسودة البيان وتجهض انتفاضة أعوان رضوا بالذل دون أن يرضى بهم، فقط لأنهم طلبوا من وزارة الداخلية أن تأخذ هذه المهام مأخذ جد، وتخصص لهم تعويضات عن الأخطار المحدقة بهم، بدل التضييق عليهم وحرمانهم من الحق في الاحتجاج، رغم أن بعض المقدمين لم ينسوا «هزة الكتف» فحرروا تقارير فورية حول الجمع أرسلت إلى من يهمهم الأمر. وقد سهّل موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» تحقيق الحد الأدنى من الالتئام حول القضية، وآمن الجميع بأن الصمت سيضع الشيخ تحت رحمة المريد وسيحول المقدم إلى مؤخر وظيف. تناسلت التنسيقيات عبر تراب المملكة، وشرعت في صياغة المطالب على شكل ملتمس استعطافي يختزل تسوية الأوضاع المادية لفئة ظلت مجندة لخدمة أمن الوطن. لا يصل راتب المقدم إلى الحد الأدنى للأجور، حيث يتقاضى 1800 درهم شهريا، لا تكفي لضمان العيش الكريم، ورغم ذلك وضعت الدولة رقما أخضر اللون للتبليغ عن تسلم أعوان السلطة للرشوة، بدل تخصيص رقم أحمر للتبليغ عن حالات الإهانة التي تتعرض لها هذه الفئة كلما كلفها القائد بتبليغ استدعاء ناتج عن مخالفة، فقد تعرض عون سلطة للاحتجاز في غرفة على سطح أحد المنازل الآيلة للسقوط في فاس، كما تعرض مقدم في تيزنيت لصفعة من سيدة في الشارع العام مباشرة بعد تسليمه إياها استدعاء للمثول أمام القائد، ونكل فبرايريون في الدارالبيضاء بمقدم بعدما ضبطوه متلبسا بكتابة شعارات حراك الحي المحمدي، وغيرها من حوادث المهنة التي يعوض الله المقدم عن كدماتها صبرا. المقدم في المغرب ليس عون سلطة، بل «عود» سلطة، حصانها الذي يركض في كل «المحارك»، فهو ساعي البريد تارة وعون تنفيذ تارة أخرى، ومفتش سري يتعقب اللصوص، وعضو في جهاز الشرطة العلمية يتأكد من الحمض النووي، يراقب أسعار المواد الغذائية ويحصي الكلاب الضالة ويمارس لعبة الكر والفر مع الباعة المتجولين، يشم رائحة الإسمنت والآجر، يتعقب الحركات الاحتجاجية العلنية والسرية، يحصي عدد الضيوف، يراقب بطون النساء تحسبا لحمل طارئ، يتفحص أنشطة الجمعيات ويجس نبض الحراك في كل الكيانات المتحركة والساكنة، يوزع بطائق الناخبين قبل معركة الانتخابات التي يتحول فيها جهاز المقدمين إلى آلية لاستطلاع الرأي وقراءة كف الاقتراع، يمسح بعينه جدران الحي خوفا من عبارات خادشة للحياء السياسي، كما يحرر المقدم تقارير يومية يقيس فيها مستوى السلم الاجتماعي في تراب المقاطعة أو الجماعة باعتباره العين التي لا تنام والأذن اللاقطة المزروعة في كل زنقة وناصية. كنت أعتقد أن أسباب نزول انتفاضة أعوان السلطة هي الخوف من مداهمة الإدارة الإلكترونية التي ستجعل الشباك الوحيد بديلا للمقدم والشيخ والقائد، حيث سيصبح المخاطب الوحيد في إنجاز الوثائق الإدارية هو عون إلكتروني اسمه الأنترنيت، بالرغم من التناقض الذي يميز وثائقنا: شهادة الحياة وشهادة الوفاة، شهادة العزوبة وشهادة الزواج، شهادة العمل وشهادة عدم الشغل، شهادة حسن السلوك وشهادة السوابق، وقس على ذلك من أضداد المستندات. لكن تبين أن جهاز ال«إحضي آي» المغربي لن يحصل على شهادة الوفاة لأن المخزن لا يدفن حواسه الخمس مهما كانت الظروف. من مضاعفات حراك المقدمين عزل بعض الزعماء المنخرطين في التنسيقية الوطنية لأعوان السلطة، وانتقال المقدم والشيخ من مساند رسمي للسلطة إلى مناوئ رسمي لها، مع ما سيترتب عن هذه الانتفاضة من انفلات أمني انسجاما مع المقطع الشهير في تراث العيطة المغربية الذي يجعل عون السلطة فزاعة أمنية: «كون ما لمقدم كاع نسيرو دم».