أثار وصول الإسلاميين إلى السلطة في عدة مناطق من العالم العربي، بعد ما سمي الربيع العربي، ويثير أسئلة عدة حول قضايا السلطة والحكم والمسألة الدينية والتعددية داخل الحقل الإسلامي نفسه. الكتاب الذي تنشره «المساء» على حلقات يفتح ملف الإسلاميين بين الدين والسلطة ويحاول تقديم إجابات عن العديد من الأسئلة التي طرحها الإسلاميون منذ ظهورهم إلى اليوم: كيف تعامل الإسلاميون مع قضية الخلافة؟ وكيف تم الانتقال من التنظير للخلافة إلى التنظير للدولة الوطنية؟ ولماذا تأخر الاعتراف بالديمقراطية كثيرا لصالح الشورى؟ وما علاقة ممارسة الحكم بالنص؟ وهل يشكل وصول الإسلاميين إلى السلطة نهاية الرحلة أم مجرد بداية لتفجير قضايا جديدة؟.. استأثر مفهوم الدولة الإسلامية بالقسط الوافر من اهتمامات الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، حتى أصبح يغطي على ما عداه من المفاهيم الإسلامية الأخرى. ومن كثرة تكراره والإلحاح عليه تكرّسَ لدى شباب الصحوة والجيل الجديد من الإسلاميين وهو يقول إن الدولة الإسلامية كانت قائمة طيلة تاريخ الإسلام وإن الإسلام جاء فقط من أجل بناء دولة يحكم من خلالها. ولا غرو أن الحركات الإسلامية أضاعت جهود الكثير من أبنائها في مراودة حلم هذه الدولة والوصول إلى الحكم حتى «جمدت» العديد من المستويات الأخرى الأهم في الدين، وصبّت كل تلك الجهود في مستوى وحيد فقط هو السلطة.. ومن خلال ذلك، أصبحت تعطي صورة مشرقة عنها باعتبارها المنقذ الوحيدَ من جميع الشرور، وأنها نموذج الإنسان الكامل الذي لا يمكن أن يعيد إنتاج نفس السلطة التي شهدها تاريخ الإسلام، والتي لا يفتأ الإسلاميون أنفسهم ينتقدونها بشدة وينعتونها بجميع ألوان الانحراف والشطط والفساد، كأنّ الدولة التي يسعون إلى بنائها باسم الدين ستكون دولة فاضلة لن يطالها الانحراف والشطط والفساد.. ونسي هؤلاء أن مبلغ التعقيد الذي وصلته الدولة والسلطة في العصر الحديث وطبيعة تشابك المصالح وتعدد القوى الفاعلة في المجتمع أصبحت اليوم عواملَ أكثرَ قابلية لإنتاج الفساد مقارنة بالماضي. وقد أظهرت التجارب الحديثة، التي تدخل في إطار «الدولة الإسلامية» أو «الحكومة الإسلامية»، مثل السودان، أن المفهوم ليس بالصورة التي تم تسويقها وأن الانحراف والفساد ليسا حكرا على الحكام الذين تعاقبوا في تاريخ الإسلام، مع العلم أن الحركة الإسلامية في السودان ضاربة الجذور في التاريخ ولها أواصر عميقة مع الزوايا الصوفية، التي يُفترَض أنها حقنت الحركة الإسلامية هناك بجرعات من أخلاق الدين والزهد في الدنيا.. بيد أن هذا كله لم يمنع «الحركة المباركة» -بتعبير الترابي- من أن تتحول إلى نقمة على السودان وأهله. ونفس الأمر بالنسبة إلى الدولة الإيرانية، التي تحولت إلى دولة يحكمها رجال الدين بشرعية دينية لا تقبل النقد ولا الاعتراض، حيث يمسك «الولي الفقيه» بزمام كل شيء، نيابة عن «المهدي»، في انتظار أوبته، وحيث لا يحق لأحد معارضته.. ورغم أن هذا المفهوم للدولة الإسلامية قد لقي انتقادا من لدن بعض الإسلاميين، فإن تلك الانتقادات ظلت محدودة في نطاق ضيّق قامت بها نخبة محصورة ولم تتحول إلى «ثقافة» في صفوف الإسلاميين. والسبب في ذلك أن الاجتهادات الكبرى في دائرة الحركات الإسلامية -مثلها مثل الاجتهادات في نطاقات فكرية خارجها- تظل، هي الأخرى، نخبوية ولا تستدعي إعادة البحث وإعادة قراءة النصوص في ضوء التجارب المُستحدَثة. ويمثل الشيخ عبد السلام ياسين نموذجا للتجديد في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة في العالم العربي، فقد أدرك، انطلاقا من التجارب المعاصرة للدولة الإسلامية، أن المراهنة على السلطة والدولة سينتهي إلى حصر الدين في النطاق السياسي وإضعاف الجوانب الأخرى، التي تُشكِّل جوهره، فهو يرى أن الإسلاميين رفعوا شعار «الإسلام دين ودولة» كمجرد رد فعل على الاستعمار، وأن «تضخيم جانب الدولة لدى الإسلاميين جاء فقط مغالبة للتيار المعادي، فكانت النتيجة أن غُيِّب أساس الدين، وهو الدعوة إلى الله تعالى، وأشاد الناس بالقوة الحامية والدرع الواقية والهيكل الخارجي: الدولة». ويَعتبر ياسين أن هذا الإلحاح على الدولة في خطاب الإسلاميين «نوع من اللائكية الضمنية وفصل لمعاني الإسلام». ولا شك أن هذا التحول نتج عن قراءة النموذجين السوداني والإيراني، فهو يؤاخذ، مثلا، نموذج الحكم الشيعي في إيران بسبب هيمنة «المرشد الأعلى» على كل شيء، «فالطاعة للإمام عندهم طاعة كلية، لا شورى تلزمه، إذ هو عندهم معصوم ولا اجتهاد مع اجتهاده».. وما يقصده عبد السلام ياسين هو نفسه ما تحدّثَ عنه ابن خلدون، في القرن الخامس عشر الميلادي، حين قال: «فأما إمامة الصلاة فهي أرفع هذه الخطط كلها وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة، ولقد يشهد لذلك استدلال الصحابة في شأن أبي بكر، رضي الله عنه، باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم: ارتضاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لديننا، أفلا نرتضيه لدنيانا؟ فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لمَا صحّ القياس». فقد اهتدى ابن خلدون، قبل خمسة قرون، إلى أن إقامة الدين ليس من شروطها إقامة الملك، أي السلطة والدولة. حوّلت جماعة الإخوان المسلمين -التي ظهرت في مصر وغزت أدبياتها باقي الجماعات في مختلف أنحاء العالم العربي- الإسلامَ إلى مجرد دين يطلب السلطة، ولذلك اتجهت، منذ تأسيسها، إلى اجتراح فهم شمولي للدين لا يبعده كثيرا عن الاشتراكية والشيوعية وعن باقي الإيديولوجيات الشمولية الأخرى سوى أنه دين وتلك إيديولوجيات وضعها بشر، ولذلك وضعت شعارا لا يختلف كثيرا عن الشعارات الأخرى التي وضعتها تلك الإيديولوجيات لنفسها، وقالت إن «الإسلام مصحف وسيف»، ووضعت الاثنين في شعار ما يزال قائما اليوم وتحته كلمة «وأعدوا» القرآنية، في تقليد يطابق تماما شعار الشيوعية، التي اختارت المطرقة والمنجل.. فبينما كانت الشيوعية ترمز بذلك الشعار إلى الصناعة والفلاحة، كانت الجماعة ترمز إلى إقامة «دولة المصحف» والجهاد في سبيل نشر الدين، لكنّ المفهوم الذي كرّسته للدولة الإسلامية كان يستبطن رمزية أخرى للشعار الثاني، وهو إكراه الناس بالقوة المادية على الخضوع لسلطة الدولة، التي يحلمون بإقامتها.