رجال صدقوا ما عاهدوا الله والشعب عليه، منهم من لقي ربه ومنهم من ينتظر. أسماء دوى صداها في أرجاء المدينة الحمراء وخارجها وشمخوا شموخ صومعة «الكتبية» أو أكثر، وبصموا بأناملهم وكتبهم تاريخا ظل عصيا على المحو. لكن فئة قليلة من الجيل الحالي من تعرفهم أو تعرف إنجازاتهم. غير أن الذين عاصروهم أو الذين تتلمذوا على أيديهم يعتبرون أن هذا الرعيل صنع ما لم يصنعه أحد ممن سبقوهم كل في تخصصه. «المساء» نبشت في ذكرياتهم في مراكش وخارجها، وجالست من بقي منهم على قيد الحياة، واستمعت إلى تلامذتهم، الذين لا زالوا يعيشون جمالية تلك اللحظات التي لازالت منقوشة في أذهانهم وقلوبهم. في بداية السبعينيات انطلقت إحدى أجمل وأروع الثورات الغنائية. كان المغرب حينها منقسم بين المنهمك في الصراعات والتطاحنات الفصائلية الداخلية وبين الباحث عن لقمة العيش اليومية، لتظهر بذرة يافعة همها الوحيد رثاء الواقع المغربي، في محاولة منها للانعتاق من الوضع الاجتماعي الذي ترزخ تحت وطأته فئات اجتماعية مهمشة. تأسست فرقة «جيل جيلالة» سنة 1972 بمدينة مراكش، من ستة أفراد، وقد سطع نجمها في سماء المدينة الحمراء، حيث ضمت في البداية أفرادا ينحدرون من الدارالبيضاءومراكش، أبدعوا وتفننوا في إنتاج أجمل الكلمات والألحان، ليقدموا أغنية «يا مولانا» و»الكلام المرصع» في بداية المجموعة التي كانت تغني لأفكار الحرية والعدالة الاجتماعية. كساد صالونات الحلاقة قبل أن يستقر اسم المجموعة على اسم «جيل جيلالة»، شكلت فرقة «ناس الغيوان» طريقا ملكيا من خلاله تم خلق أكثر من 3000 مجموعة غنائية أغلبها لم تتمكن من مسايرة الركب، فاندثرت بسرعة البرق، في حين البعض الآخر استمر لوقت قصير قبل أن يكون مصيره الزوال. صمدت فرقة «ناس الغيوان» أمام صعوبات المرحلة الصعبة، التي كان يمر منها المغرب في بداية السبعينيات، وقاومت ضيق الإمكانات، وحساسية الموقف آنذاك. فمسارها لم يكن بالهين، فقد كانت تعرف الفرقة هزات عنيفة في بنيتها، لدرجات كان يغادرها أفراد ويلتحق بها أفراد آخرون. ظهرت «ناس الغيوان» أيام الفترة «الهيبية»، وهي فترة الموضة التي كان يتبعها الشباب العالمي آنذاك، فكانت صالونات الحلاقة تعرف كسادا بعد أن امتنع الشباب عن حلق رؤوسهم وترك شعورهم تكث مما جعل هذا المظهر يسمى ب «الهيبي»، كما كانت هذه الفترة تعرف موضة السراويل العريضة عند أسفل القدم حيث كانت السراويل تتجاوز 25 سنتيمترا. حين ذلك قرر ستة من الشباب المغمورين خلق مجموعة غنائية، وهم: حميد الزوغي، والطاهر الأصبهاني، ومحمد الدرهم، ومحمود السعدي، وسكينة الصفدي، وعبد الرحمان «باكو». صعد هؤلاء قبل انطلاقهم في رحاب العالم الفسيح الذي ينتظر إبداعاتهم، التي ستخترق المكان وتتجاوز الزمان، على خشبة مسرح الهواة. انطلقت فرقة «ناس الغيوان» رسميا في 28 شتنبر 1972، وبعد شهر واحد أي في 7 أكتوبر من السنة نفسها تقدم الفرقة عرضها الأول من خلال ثلاث أغاني على التلفزيون المغربي، حينها ستغير اسمها بإطلاق اسم «جيل جيلالة» عليها، لسهولة نطق الاسم ونغمته وتيمنا بالولي الصالح عبد القادر الجيلالي، الذي كانت زواياه معروفة بدورها الإرشادي في المجال الديني. ضمّت المجموعة كذلك عبد العزيز الطاهري، وعبد الكريم القسبيجي، ومحمد شهرمان، ظلت الفرقة ملتزمة بخط الأغاني الشعبية المغربية التي تخدم القضايا الاجتماعية والسياسية معتمدة على الآلات الإيقاعية والوترية. العندليب الأسمر ضمت الفرقة زجالين وأصواتا عذبة من بينها الطاهر الأصبهاني، الذي أثنى عليه العندليب الأسمر، عبد الحليم حافظ في أواخر السبعينيات، عندما كان في زيارة للمغرب ودعاه أحد المسؤولين إلى حفل ستحييه فرقة «جيل جيلالة»، أدت خلالها أغنية «ليغارة»، ولأن الأغنية استهوته كثيرا صعد العندليب الأسمر إلى الخشبة، وأخذ الدف (البندير) في يده وبدأ يغني مع المجموعة، وبعد انتهائها سيمسك العندليب بيد الأصبهاني، ويعلن في الحضور بأن صوته من أجمل ما سمع في حياته. استلهمت الفرقة العريقة كلماتها من التراث القومي، مستعملة في تناولها له لغة متداولة بين الناس. فهي لا تزعم أنها خلقت إيقاعات جديدة وإنما قامت بالتنقيب عما قاله الأجداد سابقا وتقديمه للجمهور بعد القيام بإزالة الغبار عنه وتجميله فخاطبت بذلك المثقف، والصانع، والمتعلم، والأمي، والشاب، والشيخ، والرجل، والمرأة... مستعملة لهذا الغرض كلمات عادية، وإيقاعات بسيطة، وآلات موسيقية عتيقة، كالدف (البندير)، والسنتير (آلة موسيقية مصنوعة من أمعاء الجمل)، هذه الآلات كانت تضفي جمالية في تناغمها مع «البوزوق»، الذي كان محمود السعدي يطرب به القاصي والداني. إزعاج «البوليساريو» والجزائر شاركت فرقة «جيل جيلالة» في عدة مناسبات عالمية وعربية، لكن أبرز مهرجان شكلت فيه الفرقة سفيرا للمغرب ودفاعها عن قضايا بلدها بشكل مباشر ذلك الذي عقد بالجارة الجزائر. ففي سنة 1976 وجهت لها الدعوة من طرف إدارة مهرجان «تينكاد»، وقد كان من المنتظر أن تشارك في المهرجان فرق من «البوليساريو»، وهو ما دفع ب «جيل جيلالة» إلى الاتصال بإدارة المهرجان، ووضعها أمام خيار مشاركة فرق البوليساريو، أو مشاركة «جيل جيلالة»، ولأن الأمر محرج وغير مقبول بالنسبة للقائمين على المهرجان، ستدمع عينا مدير المهرجان، الذي كان يعلم أن الجمهور الجزائري يريد «جيل جيلالة» فقط، فاشترطوا كذلك أداء أغنية «العيون عينيا»، فلم يجد المنظمون بدا من قبول شرط الفرقة المغربية الأصيلة. سيفاجأ الجميع بمجرد أن انطلقت الفرقة في ترديد أغنيتها، الجمهور الجزائري يبدأ في ترديد الأغنية كلها. «العيون عينيا» من الأغاني التي أزعجت البوليساريو، كما أزعجت الجارة الجزائر، في تلك الفترة. وقد كانت إذاعة «البوليساريو» تذيع بعض أغاني «جيل جيلالة»، وتقدمها لمستمعيها، على أنها أغاني مناهضة تستنكر «الظلم» الذي يعرفه المغرب، لكن أغنية «العيون عينيا»، التي أنجزتها المجموعة في ثمان ساعات فقط، بعدما كانت تتوفر فقط على اللازمة التي تقول «العيون عينيا والساقية الحمراء لي»، وسجلت في الإذاعة في التاسعة صباحاً لتذاع مساء اليوم نفسه، ستكذب ادعاءات راديو «البوليساريو»، فكان رد فعل أجهزتها والأجهزة الجزائرية قوياً، بحيث سيتم إقصاؤها من المشاركة الفنية في الخارج، من هنا سيكون اتجاه الفرقة نحو الشرق العربي بعد أن أنجزت فيلماً حول مسارها وأعدت عددا من الأغاني القومية ستحط بها الرحال في كل من الكويت والسعودية والأردن والعراق وليبيا وسوريا. وستعود من هناك منقسمة إلى قسمين: قسم «النخبة»، كما يسميها مولاي الطاهر، والتي تضم محمود السعدي ومحمد الدرهم وحميد الزوغي، وقسم «عباد الله» والذي يضم الطاهر الأصبهاني، وسكينة الصفدي، وعبد الكريم القسبيجي، وعبد العزيز الطاهري، لتبدأ مرحلة أخرى من حياة المجموعة.