يصوغ الأديب «هيمينجواي» شخوص رواياته بالكثير من الوضوح، ويعرف جيدا الطريق التي يريد لأبطاله أن يسلكوها. قد يأخذهم إلى الموت والمخاطر بالكثير من الهدوء والثقة بالنفس والجدية وأحيانا بالكثير من القسوة، غير منشغل كثيرا بما يشعرون به أو بأحاسيسهم وهم يواجهون الهلاك. وكثيرا ما كنت أتمنى أن يظهر شيئا من الرحمة أو الشفقة أو حتى التشفي حين يقرر القتل أو الغرق لأحد أبطاله، لكنه غالبا ما لا يفعل. يبدو أن «هيمينجواي» يهتم كثيرا بالحركة والأفعال وبمدى دفعها للأحداث، ولا ينشغل بعواطف أبطال رواياته وهم يساقون إلى مصائر عنيفة. في حين يمكن أن نقرأ في روايات مواطنته الأديبة «ماريلين روبينسون» اهتمامها الجدي بالرحلة الوجدانية وبأحاسيس أبطال رواياتها في كل التجارب التي يخوضونها، وترسم لكل حركة لهم خريطة من الأحاسيس المعقدة تنقلها بوضوح وبالكثير من الزخرف اللغوي والشاعرية. هذه المقارنة المختصرة بين الكاتب والكاتبة في التعامل مع العاطفة يمكن أن تلخص، رمزيا، الفرق القائم بين رجل وامرأة في هيكلة وصياغة وحتى التحكم والتعبير عن العواطف والأحاسيس في الحياة. وجدتني أسوقها بعدما تلقيت بعض العتاب الجميل من بعض القراء الرجال الذين رأوا في سلسلة مقالاتي المعنونة ب«أصوات نسائية» «تحيزا تجاه أحاسيس النساء». واقترحوا علي، بالمقابل، كتابة سلسلة من الأصوات الرجالية لإضاءة الكثير من التجارب التي يمر بها الرجال والتي يشعرون بأنهم يتعرضون فيها لنوع من العنف النفسي والرمزي الذي يُمارس عليهم من طرف بعض النساء من المجتمع عموما. لا أنكر أن هذا العرض مُغرٍ، والتجربة جديرة بالدخول إليها. لكن أين يمكنني أن أجد أحاسيس الرجال؟ أين يمكن قطفها فاكهة ناضجة مثلما هو الحال عند النساء، فلم أر من قبل رجلا يسهب في وصف أحاسيسه مثلما تفعل النساء اللواتي لهن قدرة عجيبة على فك تشابك الأحاسيس والعلاقات الوجدانية مهما كانت معقدة، ويحملن معهن أينما حللن عواطفهن التي لا تحتاج، للتعرف عليها، إلى إرهاف السمع؛ وقد تجدها متاحة في كل مكان.. في المنازل وفي قاعات الانتظار وفي الكثير من الأماكن العامة، حيث لا تجد النساء أي حرج أو صعوبة في التعبير عن أحاسيسهن وكأنهن يبسطن غسيلا ليجف في الهواء. والحال أن كتابة أحاسيس الرجال أمر صعب للغاية... فإذا استثنينا الغضب والفرح اللذين يظهران كعاطفتين مقبول التعبير عنهما اجتماعيا، لا يفرد الرجال عواطفهم، حتى إننا كثيرا ما نشك في وجودها أصلا، ربما لأنهم لا يمتلكون الوسائل الملائمة للتعبير عن تلك الأحاسيس بحكم تنشئة المجتمع الذي يسطر قانونا صارما يبدو فيه التحدث عن الأحاسيس صفة نسائية بامتياز، ويظهر فيه التعبير والبوح الوجداني اختصاص النساء التاريخي الذي لا ينازعهن فيه أحد. الكتابة أو حتى الاقتراب من ذلك الغور العميق المسمى أحاسيس الرجال فضول نسائي دائم، فالنساء تراودهن الرغبة في الاقتراب من الكيفية التي يعاني بها الرجال ويعبرون بها عن ضعفهم، وفي كشف السبب الذي يجعلهم يظهرون وكأنهم أقوى في مواجهة تقلبات الحياة، وفي بلوغ مكمن أو مخبأ أحاسيسهم ومعاناتهم، ثم في معرفة سر عدم تركهم إياها تخرج منهم حرة دون ترويض مثلما تفعل النساء. الأمر لا يبدو بسيطا؛ فهناك عواطف وأماكن من الهشاشة الإنسانية والكثير من الأسئلة التي تتنازع الرجل بقوة في ما يشبه مزيجا من القلق والفرح والشجن لا يظهر لنا منها سوى انزواؤه في مقهى أو عصبيته وغضبه أثناء مشاهدة مباراة في كرة القدم؛ أما الحزن والضعف والحيرة والإحباط والحب والغيرة فكلها أحاسيس من الصعب تقفي آثارها لدى الرجل عموما؛ في حين يمكن قراءة الفرح والقلق وغيرهما من الأحاسيس التي تظهر على النساء دون الحاجة إلى وسيط. ولهذه الأسباب، ربما سيظل الرجل المغربي على الدوام متهما بخلق منطقة عازلة تقف حاجزا منيعا أمام كل محاولة نسائية للتلصص على المخبوء خلفها.