الدكتور محمد عمار من دعاة اللاعنف في سوريا، وقد دخل المعتقلات أكثر من مرة وقابل آصف شوكت الذي قتل في حادث خلية إدارة الأزمة في سوريا، وينقل عنه أنه كان يوافق على تغيير سوريا بهز رأسه كل مرة موافقا في تلك المقابلة، ولكن في النهاية حبس الدكتور محمد عمار -وهو حوراني من أهالي بلدة نمر- في السجن لمدة شهر، أما أخوه فقد روت لي ابنتي من كندا أنه خرج وربما لم يسلم عظم من عظام جسده من الكسر! راسلت الدكتور عمار، أطمئن عليه في خضم الحوادث المخيفة في سوريا، فأجابني باختصار بهذه الكلمات: نحن، كأسرة، منغمسون في الهم السوري، وأصبحت الأشياء التي نستطيع أن نقدمها قليلة، لقد قصرنا في خدمة وطننا، ونتألم ونحن نراه يحترق بينما نحن عاجزون عن الإطفاء. أجبت الرجل بهذه الكلمات التي بدأت جوابا فامتدت وكبرت مقالة! إنه الحريق، إذن، كما ذكرت. لقد رأيت مناما عجيبا قبل أن يحدث أي شيء.. لقد رأيت حريقا يأكل غابة ممتدة، رأيته يلتهم الغابة بسرعة، رأيته بعدها يتوقف عن يميني وقد بقي شيء من الغابة، رأيت نفسي كأنني أنظر من علِ، وعن يميني بناية كبيرة أصبحت كثيبا مهيلا. أظن تفسير ذلك المنام قد تحقق الآن. إن الأبنية التي أراها في حمص وأدلب وإعزاز هي نفس ما رأيته في المنام. أما الغابة فهي الغابة العربية سفاري تسرح فيها الضواري. أما البناية الكثيب المهيل فهي سوريا، سنأخذها -على ما يبدو- من فصيلة السنوريات، مثل أي فريسة تجتمع عليها عائلة السنوريات فهل ترى لها من باقية؟ أظن أن هذا المجنون لن يترك حجرا على حجر في سوريا، أظن أن نهايته وعائلته ستكون دموية جدا تبقى فيها نهاية القذافي رحيمة. الله يقول وكلا أخذنا بذنبه! ثم يرتب الله العقوبات على أشكال أربعة كما جاء في سورة العنكبوت، يقول الرب: «فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا». بعد هذه الألوان الأربعة من التحطيم والإفناء يأتي القانون الاجتماعي، بأن ما حدث لم يكن من ظلم الله لهم بل كانوا أنفسهم يظلمون! تأمل نهاية الآية وهي تنص على القانون (النفسي الاجتماعي): «وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون». من أعجب ما بقي في ذاكرتي حين استضافونا في أحداث المسجد الأموي عام 1965 أيام أبي عبدو الجحش، وكيف حشرونا خمسة آلاف شخص في المسكية، ثم زربونا بالشاحنات إلى سجن المزة العسكري حين دخلنا، ورأيت تلك الواجهات والجدران الكالحات، ومما لفت نظري هذه الآية منقوشة على حائط يقرؤها الجميع «وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين». هنا ظهر لي شيء جديد من الشعارات هو أنه يمكن لأظلم نظام وأعتاه أن يستخدم النص المقدس في أقذر شعار ولعبة! العقوبات الأربع من الحاصب (ربما البركان) والصيحة (ربما صاعقة سماوية غير اعتيادية) والخسف ربما بزلزال، وأخيرا الغرق المعروف في ابتلاع جيش فرعون، ولكن هذه الألوان الأربعة هي أمثلة فقط! هناك آية عجيبة في سورة «الأنعام» تذكر لونا جديدا من العذاب فهي تقول: «هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم» (وهنا يأتي دور السماء)، ثم يتابع: «أو من تحت أرجلكم» (وهنا يأتي البركان والزلزال)، ثم يتابع بلون ثالث: «أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون»، وهو الحاصل في سوريا من اقتتال شرس بعضهم لبعض عدو.. حريق يلتهم مفاصل نظام مجرم وقوافل موتى بعشرات الآلاف ومعذبين بعشرات الآلاف. لقد أصبحت سجوننا القديمة أيام أبي عبدو الجحش نزهة في ما نراه في ظلمات سوريا الحالية! هل هي نهاية النظام والدولة وبداية مرحلة جديدة؟ هي بالتأكيد كذلك، ولكن العقل العلمي مفتوح على كل الاحتمالات. فقد مات البري البربري في الصومال بلعنة وعذاب، ولكن الصومال كدولة انتهت ومازالت، وكذلك العراق فقد دفنت وشنقت أمريكا صدام للعراقيين بالصدمة والدهشة؛ فكان الفصل السهل في التخلص من الديكتاتورية، ونبت من رماد صدام ألف صدام وصدام! تأملوا المالكي بدون ملك. أتذكر مالك بن نبي حين يتحدث عن انشطار التاج وتحوله إلى صويلجانات صغيرة يحكم بها حكام ترانزستور! نحن أمام مفرق طريق في سوريا وكما قال العمار: نحن شهود حريق كبير يأكل غابة جافة في ريح ضاربة في صيف قائظ، نتأمل الأحداث أكثر من صناعتها حتى يصنعنا أقوياء العالم بالسلاح الذي يقدمونه إلى هذا وذاك. ألا لعنة الله على الظالمين. أتذكر في خضم هذه الأحداث من القامشلي قريبا لي كنا نلقبه (حكو) واسمه الفعلي حكمت. دخلت غرفته البائسة وقد كتب على الجدار أبياتا مهترئة من شعر عبثي يقول فيه: إن حظي كدقيق بين شوك بذروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه صعب الأمر عليهم قلت قومي اتركوه إن من أشقاه ربي كيف أنتم مسعدوه! هل سيكون مصير السوريين بين شقي وسعيد؟ ومن سيكون الشقي والسعيد؟ العقل العلمي مفتوح على كل الاحتمالات وكل شيء يبقى ممكنا. ولكن الشعوب في النهاية تتعلم بالعذاب أكثر من سطورنا الفانية.