في سورة البروج قصة مليئة بالرمز. يقول المفسرون إن سببها غلام فطن كان عند ملك أراد منه أن يتعلم السحر على يد ساحر! في طريقه تعرف على رجل راهب، فتعلم منه فكرة الحرية والإيمان بالخالق. استمر الغلام على تعلم الفنين من الرجلين، فإن تأخر قال كنت عند الساحر، حتى جاء يوم الامتحان حين طلب الملك من الغلام معالجة حالة طبية مستعصية فشفاها. كانت دهشة الملك بغير حدود حين سمع جواب الغلام بأن من يشفي هو الله وهو لم يشف بقوة السحر. قال الملك إذن ذهبت جهودنا سدى وعبثا وأدراج الرياح. يا غلام، إعقل وافهم من أين لك بهذه المعلومات المضللة؟ مازالوا خلفه حتى اهتدوا إلى الراهب فقتلوه، ولكن الغلام يأبى التراجع.. يحاولون قتله غرقا وشنقا وحرقا ورميا من شاهق، لا فائدة. هكذا تقول الأسطورة. والأساطير مهمتها الصعود بالمخيلة إلى حافة الاستحالة. يضحك الغلام على الملك والملأ ويقول لهم: هل تريدون قتلي؟ حسنا إليكم الطريقة! تفضلوا، إنها سهلة أكثر مما تظنون ولكن لها شرطا. حسنا، ما هو الشرط؟ إجمعوا الناس في صعيد واحد، ثم اعمدوا إلى قوسي وسهمي فضعوا فيه نبلا، وحين تطلقون السهم قولوا باسم الله رب الغلام، فلسوف أموت! فعلوا ومات الغلام فنبتت من لحمه جماهير مؤمنة هائلة. حدثت مظاهرات الثورة كما في سوريا.. الله أكبر آمنا برب الغلام. أحصروا الناس.. عذبوا الناس، أطلقوا عليهم الأسلحة بيد البلطجية والشبيحة والمخابرات والأمن!! لا فائدة.. لقد آمن الشعب.. إذن أحرقوا الشعب جميعا لو لزم الأمر كما يفعل الأسد الصغير من فصيلة السنوريات. تخد الخدود وتحفر ويجمع الحطب وتلتهب النار ويدفع الناس إلى الحرائق جماعات جماعات وهم يكبرون ولا يتراجعون. لا يهتم القرآن بما حصل، ولكنه يقتطف المنظر التاريخي حتى نوظفه في وقائع الأحداث كما يحصل مع أجيج النار السورية. كنت في البريد حين وجه إلي الموظف سؤاله عن القتل المريع والفظاعات في سوريا. قلت له: أنتم ترونه الآن، أما نحن فشهود عيان على الفظاعات. في القرآن سورة كاملة باسم البروج، فما هي خلفيتها؟ المسلمون في العادة يمرون على القرآن وآياته مثل الجاهل في البناء الكوني ومحطات النجوم والأنظمة الشمسية. لذا كان الذهول عن وقائع التاريخ وقوانينه يقود، كما يقول المؤرخ توينبي، إلى البطر والجائحة. ما يحدث في سوريا جائحة يدفع ثمنها وطن كريم حين غفل عن انتشار السرطان البعثي في أحشائه والعظم فهو يتألم ويأمل. يقسم الرب بالسماء ذات البروج واليوم الموعود، ويضيف في القسم بصنفين شاهد ومشهود. هنا نحن أمام مشهد كوني تختلط فيه مشاعر البشر ومعاناتهم مع دورة الفلك وقبة السماء. يبدأ القرآن بلفظ قتل أصحاب الأخدود. خد يخد وأخدود إنه مكان يحفر في الأرض، ولكن لماذا؟ نحن نرى جنودا مخفيين في مسرح التاريخ يهيئون الحطب لحريق هائل، فلماذا ولمن وكيف وأين ومتى؟ إنها أسئلة عظمى ندور حولها نحن البشر. لم يحفل القرآن إلا بالرمزية العميقة. ولكنه يقول عن هؤلاء الجنود إنهم في فعالية عظيمة فهم يؤججون النار فلا نرى من بعيد سوى الوقود واللهب. الجند ومن يأمرهم ويقودهم جالسون بمتعة، يقول الرب: قعود، فمن هم القيام؟ وماذا يحرق في النار؟ يجيب القرآن بلفظة تقشعر لها الأبدان وهي أنهم جالسون قعود يتأملون الحطب والنار وهي تأكل أجساد البشر من المؤمنين. ولكن، لماذا كل هذه الفظاعة ونحن نعلم بأن أشد الفظاعات والألم هي في الحرق. في الطب نعرف أن الإنسان قد يموت من صدمة الألم وفي الحريق يجتمع الألم والتشوه في أقسى مواجهة. لقد رأيت أثر النار في جسد فتاة وأنا أتدرب في سنة الامتياز، كيف كانت في عالم آخر. يجيب القرآن بأن كل هذا التنكيل لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد. كل الاضطهاد في التاريخ كان من أجل الاختلاف في الرأي. فريق فرعون وهامان والأسد في سوريا يرون طريقين: نحكمكم أو نقتلكم بالنار ذات الوقود. الشعب السوري في خطه العريض اليوم يدخل الأخدود البعثي، فيجلس عتاة النظام قعودا على المجزرة بالنيران وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. يضبط القرآن الموجة فيقول إن الذين فتنوا الرجال والنساء ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق موازيا لما يفعلون. أما المناضلون من المؤمنين بقيم الحرية والعدالة والسلام فلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير. إنها مناسبة الآن لأنْ تتلى في الصلوات من أجل إحياء المعنى الرمزي الكبير من بطن التاريخ. يلفت القرآن النظر إلى أن الله حين يبطش بهؤلاء الظلمة الفجرة فهو شديد، فهو الذي يبدىء ويعيد، وهو ذو العرش المجيد، فعَّال لما يريد. يذكرنا القرآن بأن هذا اللون من العذاب الذي يصب على طلاب الحرية والعدالة ليس جديدا وحيدا في التاريخ الإنساني، فيسوق لنا الأمثلة عن فعل هؤلاء الجنود الأوغاد من الشبيحة والبلطجية والحرافيش، أيادي النظام الدموي الخبيث، فيذكر فرعون الذي رأى تسع آيات بينات بدون فائدة. رأى البحر ينفلق أمام ناظريه فيأمر الجنود بالمتابعة، إنه أقوى من شمشون وهرقل، ويحاول موسى عبثا بعد أن عبر البحر أن يضرب بعصاه كي يلتئم البحر على هؤلاء الجنود القساة. يقول له الرب اترك البحر رهوا، إنهم جند مغرقون. كثير من كلمات القرآن أقف أمامها مذهولا. يقول له الرب: هناك خطة لهم، دع البحر هادئا حتى يدخل الجميع فيذوبوا جميعا في اللجة، فيؤمن فرعون في غرغرة السكوت وملكوت الموت. إن الرأس المطلوب ليس بشار الأسد ولا زمرة محدودة، بل كل الخطاة إلى أصغر بيدق وأعظم مساعد من إيران وحزب الله وأشياعهم. عجيب هذا الاجتماع بين ملالي طهران وعصابة المافيا الروسيا والبيدق الإيراني المتمثل في نصر الذي يذكر بالشقي المكسيكي بانشو فيا. يقول القرآن إن الذين كفروا في تكذيب، ولكنهم لا يدركون أن هناك إحاطة إلهية بكامل المشهد. إن هناك إرادة خفية تنضج الأحداث والناس والشعوب ومصائر العباد وحركة التاريخ. يعيدنا القرآن إلى الحقيقة الكونية التي تنتظم حالة قصة الساحر والراهب وحرق الناس في نجران ربما كانوا النصارى هناك من المؤمنين الذين دفعوا ثمن حرية الرأي أن أحرقوا في النيران. لا يهتم القرآن بالزمان والمكان والأناسي. إنه عن قصد يحذف عناصر القصة من الزمان والمكان والأشخاص ويدخلهم معمل المطلق. إنه يهتم فقط بالرمزية العميقة لتطهير الناس في النار ذات الوقود، من أدران المادة لتولد الأمة بإرادة حرة مثل أي معدن في نار المحنة خالصا من الشوائب. قد يموت من السوريين مزيد من عشرات الآلاف، ولكنه ثمن بخس مقابل الانعتاق من التبعية والعبودية. إنها النار السورية ستقذف بشررها حتى الكرملين وقلب التنين الصيني. أنا فرح بكم أيها السوريون، أقبل أيادي الشهداء وأقدامهم، فهم بأغلى ما يملكون، أرواحهم، يمهدون الطريق لنا لأرض ذات ضرع وزرع وكرامة وحرية وعدل وسلام. الثورة الفعلية تحدث الآن في بلاد الشام فتكنس وتحرق كل مفاصل النظام كما في سورة البروج بالنار ذات الوقود، وتولد أمة جديدة صهرتها المحنة بنار لا تخيب، فتخرج كما خرج إبراهيم من النار فقال لها الرب كوني بردا وسلاما على إبراهيم. كذلك ستكون على الثورة ويعرف الأحفاد ثمن الحرية العظيم.