أحيانا، يسبح خيالي فأخاطب الرب وأقول: حاشا يا ربي، لست بك كافرا، ولكن لماذا لم تخلقنا بهائم لا نفهم؟ أو ذبابا يموت في أيام؟ أو ما معنى مسرحية الوجود ولماذا كل هذا الظلم..؟ ثم أتذكر حكمة أرسطو: الحياة لمن يشعر تراجيديا مؤلمة.. ولمن يفكر كوميديا مسلية.. أو هكذا أزعم؟ إنها نفس المشاعر التي انتابتني حين استلمني الجلاد طحطوط الديري، الذي سمعت عنه هذه الأيام أنه أصبح تاجر عقارات، فعرضني للون جديد من التعذيب.. إن دير الزور خرجت كما نرى البطولة والصديد.. هذا يذكرني بالفيلسوف باسكال في فكرته عن اللانهايتين: لماذا كان الإنسان ملاكا وبالوعة ضلال؟ كنت أخاف من أن توضع الكهرباء في الأماكن الحساسة.. حدثني البعض عن هولها.. ولكن المجرم وضعني واقفا في مواجهة الحائط في الليالي والأيام وعلى كتفي دولاب سيارة ثقيل.. كان المعتقل هو كراكون الشيخ حسن، بجنب مقبرة الدحداح، فكانت مقبرتان متجاورتان.. تذكرت الآية: ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا.. كنا نحن أمواتا في الحياة.. أنا خجل من ألا أموت في شوارع سوريا مع القتلى.. كنت أتمنى أن أتقدم إلى أحد الشبيحة فأصرخ فيه: طاب الموت!! أنا جراح سأدلك على مقتلي بسرعة وأسرعها ضرب شريان الكاروتيد السباتي (Carotid . A) برصاصة أو شبرية على طريقة القاشوش في العنق أو قذيفة في الصدر عند القلب أو طلقة في القذال مكان الحياة.. إن الشيعة يحتفلون كل سنة بحفلة دم الحسين، أليس كذلك.. لماذا؟ لأنه قتل مظلوما وتكفل الرب بأن يجعله منصورا.. سوريا تحتفل بعيد الدم هذه الأيام، ليس كربلاء وعشرة أيام، بل ستة أشهر.. يا دراكولا لقد استلبتمونا الحياة نصف قرن وبعثنا من جديد. نحن جيل التيه والخوف.. نحن جيل الهزيمة والذل والعار والاستبداد.. كان اليأس مطبقا كظلام ليل لا ينتهي ومعه فقدنا الأمل.. أصارح القارئ بأنني كنت أفكر في أنني لو وقعت في أيديهم لن أدعهم يتمتعون بتعذيبي كثيرا، عليّ أن أجد، وأنا الجراح والطبيب، طريقة سريعة أنهي بها حياتي.. الآن، انقلبت مشاعري بالكامل.. أنا فرح حبور.. إذا اجتمعت بالتنين الأمني برؤوسه التسعة عشر سوف أضحك من أعماق قلبي، وأقول الحمد لله الذي منّ علينا فأذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور.. لقد مضت أيامكم وأصبحتم علب كونسروة فاسدة (expired).. فافعلوا ما بدا لكم! أتذكر قول الرب: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. وهو ما حصل معنا.. ثم.. فقال الله لهم موتوا ثم أحياهم.. وكذلك بعثت الأمة السورية من وهدة العدم وقبضة الاستبداد.. نزلنا من الشاحنة العسكرية، لأفاجأ بما يذكرني بأفلام الهنود الحمر.. ممر من جدارين من الجنود المشمرين عن سواعدهم والساق، وعلى طول الممر اللكمات والرفسات حتى المعسكر الفظيع.. لاحظت في ممرات السجن الرهيبة لافتة كبيرة مكتوب عليها (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين).. لا أدري ما الذي جعلني أتذكر الحكمة العربية: كلمة حق أريد بها باطل.. ومن رفع القرآن على رؤوس الرماح لم يكن يريد القرآن بل رأس الرمح، ولكن من يدرك؟ ثم كانت ليلة لا تنسى.. أخذونا ظهرا والرحلة الجهنمية من جحيم دانتي ما زالت مستمرة.. احتشدنا في ساحة لا أعرف أين موقعها من السجن، ثم علا الصمت فقد وصل وفد هام من الرفاق.. في تلك الليلة، تعرفت على أبي عبدو الجحش، كما سمي لاحقا، وهو رئيس الجمهورية أمين الحافظ الحلبي قبل أن يقلبه الرفاق من منصبه.. هدد وتوعد وأرغى وأزبد ثم زعق زعقة شديدة وقال: هؤلاء التجار هرَّبوا إلى خارج سوريا 800 مليون ليرة.. ثم.. والله بالله تالله لئن لم يعيدوها؟ المال طار على أجنحة السنونو إلى الأمان، فهل يعود طير فر من قبضة مجرم؟ قال لي صديقي نزار الشركسي إن والده كان من رجال الجمارك على الحدود السورية التركية في تلك الأزمة في نقطة (باب الهوا) مباشرة على بوابة تركيا حين مرّ مسافر سوري بسيارته. قام بتفتيش السيارة ورابه ثقلها، ففتش فلم يجد ما يفسر ثقل السيارة، ثم خطر على باله أن يفتح مكان الموتور الأمامي؟ لم يكن ثمة شيء جديد، ولكن الرفرف كان ثقيلا جدا وكأنه ليس من الحديد، بل من شيء أثقل! قام بحك الغطاء لتلمع صفرة داخلية، كان الغطاء الأمامي بكامله من الذهب الخالص.. من الأصفر الرنان! لقد حول الرجل ثروته كلها إلى ذهب وهرب بها من الرفاق الأوغاد.. نظر إليه التاجر الحلبي بتوسل وقال: أطلب ما تشاء؟ فكر ضابط الجمارك في تلك الظروف من بطش البعثيين، فرأى أن أفضل ما يخدم البلد أن يترك الرجل يمضي في حال سبيله، فتركه وقفَّل الملف وأنا أرويها للقارئين. في تلك الليلة، نظر أبو عبدو الجحش إلى زاويتنا وعتل زنيم قد تسلط على طالب شريعة فلسطيني ملتح يهجم عليه بين الحين والآخر فيتنف لحيته.. قال أبو عبدو: من هؤلاء؟ وكنت ممن زجّ بهم في تلك الزاوية. قال الزبانية: إنهم طلاب جامعة، قال: توصوا بهم يتحملوا!! ثم بدأت الحفلة التي لا أنساها.. في مهاجع سجن المزة العسكري ممر عريض ومصطبة مرتفعة من كل جانب.. كان بيد ذلك الجلاد الوحش حزام عريض من الجلد يضرب به الوافدين كيفما اتفق، فيستلم كل من يدخل فيضربه فيشبعه جلدا ولكما ورفسا حتى يتورم، ثم يلقي به على المصطبة في انتظار الفوج الثاني.. فعلت نفس ما فعلته مع جثة الضابط أمام عتبة الأموي، وكنت شابا رياضيا سريع القفز. دخلت القاعة، وكنا مجموعة، فرميت نفسي إلى المصطبة وهو مشغول بالمرعوبين المستسلمين.. إنها لحظات مصيرية في التفكير الاقتصادي السريع واتخاذ أساليب السلامة في الغابة البعثية.. فلم يلحظني ولو لحظني لضاعف لي العذاب كأسا دهاقا ولكنني نجوت.. بنفس الطريقة حين جمعونا في الأموي دفعونا مثل سرب نمل متتابع على شريط واحد ضربا بكل شيء، فكان من يصل إلى بوابة الأموي يمر من فوق العتبة إلى خارج المسجد حيث جثة مسجاة على الأرض، فيدهسها، وبذلك كانت الجثة مكان دعس خمسة آلاف هارب من الأنفرنو (Inferno) جحيم دانتي.. قيل لنا إنه ضابط حمصي شارك في المظاهرة، يرحمه الله.. أظنه من وقف وخطب من المنبر في الجماهير محمسا على الخروج والنصر.. لقد تبدلت الأحوال مع هذه الأيام بوعي ثوري عجيب من مزيج ثلاثي من تبني الكفاح السلمي رفض أي تدخل أجنبي ولا طائفية.. لم تكن الجماهير في ذلك الوقت ملقحة بمثل هذا اللقاح الثلاثي كما في اللقاحات الهامة عند الأطفال ضد السل والشلل والكزاز.. الحمد لله على أن الثورة السورية تلقحت ضد السعار البعثي كفاية.. إنه أسلوب براغماتي وموقف أخلاقي وطريقة نبوية للخلاص من سرطان الاستبداد البعثي. حين وصلت العتبة، لاح لي شيء ممد خلفها، فقمت بقفزة هائلة، فلم أطأ جثة الضابط الحمصي.. وهكذا نجوت مرتين باحترام الجثة وبالنجاة من يد ذلك الجلاد المخيف.. وقصصي مع الجلادين كثيرة، فقد تعرفت -كما ذكرت- على يوسف طحطوح من دير الزور، وذلك العلج من السويداء وأبو طلال في فرع المخابرات العامة 273 في الحلبوني، وهو دمشقي ميداني، والثالث صاحب الشوارب الصقرية الحموي.. وتمنيت أن يخرق لي الرحمن سجف الغيب فأعرف مصيرهم؟ إن جلادي النظام من كل الفئات والطوائف كما نرى.. بقينا في سجن المزة العسكري 39 يوما، وكان هذا اعتقالي الثالث. قلت ارتفع الرقم ثلاث مرات بين اعتقال القامشلي والمزة، أما القادم فسيكون ثلاثة أضعاف الأخير.. لا.. لم يكن ثلاثة أضعاف، بل كان ستة أضعاف.. كله في عهد الأسد الكبير بأنياب كبيرة ومخالب هائلة.. ولو لم أهرب من المعسكر النازي البعثي لبقيت ربما ليس ستة أضعاف بل ثلاثين عاما، هذا إن خرجت فكتب الله لي النجاة.. كنت في حارة الشيخ محي الدين بن عربي أقلب وجهي في السماء وأقول: يا رب لا تجعلني فتنة للقوم الظالمين ونجني من القوم الكافرين.. لقد دفعت الضريبة البعثية كاملة مع فوائدها المركبة، وحين خرجت من الحدود السورية عام 1975 سجدت على الأرض وقلت ما أروع الحرية.. أنا أفهم الآن: لماذا يموت السوريون بهذه المتعة! إنها حلقات رقص الصوفية، إنه الإدمان على هيروئية جديدة في المظاهرات.. هذه كانت مشاعري في أوتوا الكندية وأنا أهتف وألوح بقبضتي بالعربية والإنجليزية: الشعب السوري واحد ولن يهزم قط.. انتهى/