اكتشف مانويل فالس بتقلده لوزارة الداخلية على أرضية الواقع جسامة المسؤولية التي أنيطت به. ويبقى من بين الوزراء القلائل الذين لم يتمتعوا بفسحة الصيف، بسبب الملفات الساخنة التي كان عليه تدبيرها والحسم فيها. وبما أنه لا يطمح إلى القيام بثورة داخل وزارة الداخلية، وهي من أعقد الوزارات ضمن الهرم الوزاري، فإنه على الأقل على المدى المتوسط مطالب بتقفي خطى من سبقه من الوزراء مع الحرص على إدخال جرعة بسيطة من الإنسانية في التعامل مع الملفات الساخنة والمعقدة. وجد وزير الداخلية الفرنسي الجديد نفسه، في ظل حرارة الصيف الحارقة، يدبر ملفات ساخنة، تنبىء بأن مهمته على رأس الوزارة لن تكون سهلة، فمن حرائق اندلعت في الغابات إلى سطو بعض العصابات المنظمة على الأبناك، مرورا بقضايا اغتصاب قاصرات في المخيمات الصيفية، كان برنامج الوزير حافلا بالأنشطة، أي بالمشاكل. غير أن ملف الغجر الروم وأحداث مدينة آميان يعتبران من بين الملفات الشائكة التي شخصت بالملموس سياسة الوزير وعرت أسلوبه في التسيير والتدبير. ملف الغجر هو بمثابة ثعبان البحر، الذي حاولت الحكومات المتعاقبة، منذ رئاسة جاك شيراك، فصل القرار في معضلته، لكن من دون جدوى. إذ تحشر في الأخير عائلات تتألف من 5 أفراد فما فوق في مراكز اعتقال قبل أن توضع على متن طائرات شارتر وترسل إلى رومانيا أو هنغاريا. وهي حلول مؤقتة وغير ناجعة إذ ما تلبث هذه العائلات أن تأخذ طريق العودة إما في اتجاه فرنسا وإما في اتجاه بلدان أوروبية أخرى، حيث تعيد بناء أكواخ من كرطون في هوامش المدن أو في الغابات. وهكذا استمرت اللعبة السيزيفية بين الغجر والحكومات المتعاقبة. مانويل فالس غير قادر على ابتكار حلول جديدة كفيلة بمعالجة هذا الإشكال، بل فاجأ الروم، من دون استشارة للجمعيات الحقوقية، بتنظيمه حملة تمشيط وتنظيم رحلات جوية في اتجاه بوخاريست ! بل حتى مارتين أوبري، السكرتيرة الأولى للحزب الاشتراكي، وعمدة مدينة ليل، بشمال فرنسا، لم يتم إبلاغها بقرار تفكيك مخيم بضواحي المدينة التي هي عمدتها. وقد علمت بالخبر عن الطريق الصحافة، الشيء الذي أثار غضبها ودفعها إلى إلغاء عطلتها. وعليه عوض أن يعالج مانويل فالس المشكل، تسبب على العكس في تعقيده، إذ التحق المطرودون من ضواحي مدينة ليل ب3000 غجري المتواجدين بالمدينة ! وستضع مارتين أوبري النقاط على الحروف خلال هذا الأسبوع أثناء ندوة صحفية تعقدها في الموضوع. وليست عمدة ليل الوحيدة التي وجهت انتقادات للكيفية التي تصرف بها فالس في تدبير ملف الروم، بل أعرب فودي سيلا، الرئيس السابق لمنظمة SOS Racisme المقربة من الحزب الاشتراكي عن مساندته لمارتين أوبري، كما نددت جمعيات حقوقية بهذا الإجراء. لا تمانع مارتين أوبري في تفكيك المخيمات العشوائية للغجر، التي تنعدم فيها أدنى شروط العيش اللائق، بل تدعو إلى صيانة كرامة الأشخاص لا إلى اقتلاعهم بطريقة عنيفة والإلقاء بهم كبضائع انتهت مدة صلاحيتها ! بل وحتى سيسيل ديفلو، وزيرة الإسكان، عارضت الطريقة الخشنة لمانويل فالس مذكرة بالوعود التي قطعها المرشح فرانسوا هولاند والقاضية ب»معارضته لتفكيك المخيمات من دون اقتراح بدائل». في الوقت الذي نشط فيه وزير الداخلية لتفكيك المخيمات بمدينة ليون بجنوب فرنسا ومدينة ليل بالشمال وبعض المدن الأخرى مثل باريس التي فكك أحد مراكزها الواقعة بالمقاطعة التاسعة عشرة، في هذه الأثناء اندست مجموعة من الغجر بلغ عددها 25 شخصا إلى تخوم مدينة إيفري، التي كان مانويل فالس عمدة لها إلى غاية تعيينه على رأس وزارة الداخلية، اندست لبناء أكواخ كرطونية، نكاية به ولتوريطه أكثر. فالعمدة الجديد الذي حل مكانه والمقرب منه يجد نفسه في وضعية صعبة لا يسهل تدبيرها. فإن أقدم على تفكيك هذه الأكواخ، سيخلق ذلك انعكاسات سلبية عليه، إن تركها سيكون ما أقدم عليه الوزير مجرد ضربة سيف في الماء. تشفي المعارضة وقد خصصت الحكومة البارحة خلال اجتماعها الأسبوعي جلسة عمل لهذا الملف الشائك والذي ركبت عليه معارضة اليمين للتنديد بالأسلوب المحتشم لإجراءات وزير الداخلية. وكان بريس هورتفوه، وزير الداخلية الأسبق في حكومة نيكولا ساركوزي قبل كلود غيان أول من أطلق النار على الوزير الاشتراكي متهما إياه بنقل وتطبيق، لكن بشكل خجول، ما قامت به الحكومة السابقة بحزم وشفافية لما انتهجت سياسة إعادة الغجر إلى بلدانهم بشكل صارم وذلك بغية إدماجهم في بلدهم الأصل. لكن الإجراءات التي أقدم عليها بشكل سريع مانويل فالس لم تتعرض لانتقادات اليمين فحسب، بل نددت الجمعيات الحقوقية المدافعة عن الغجر بهذه الخطوة التي تتعارض مع الوعود الانتخابية للمرشح هولاند. فقد صرح أحد مسؤولي جمعية «أطباء العالم» قائلا:»تدهورت وضعية الروم مع اليسار. لا يتم إخلاء المعسكرات وحسب بل يطارد الغجر أيضا» في فيلوربان، أو في ضواحي مدينة ليون، «. أما «مجموعة الدفاع عن الغجر»، أو مجموعة «روما-أوروبا»، فرفعتا شعار: «رومانيا هي أوروبا أيضا. أوقفوا طرد الغجر». ووضعت اللجنة الأوروبية فرنسا تحت المراقبة بمتابعتها للطريقة التي تنتهجها السلطات الفرنسية في الملف الغجري. في هذه الأثناء وافقت مجموعة وبشكل طوعي العودة إلى رومانيا مقابل 300 أورو مخصصة للكبار و150 أورو للصغار. على أي وكما أكدت ذلك كل التجارب السابقة، فإن سياسة التفكيك والترحيل تبقى غير ناجعة، نظرا لأن الغجر يبتعدون بضعة كيلومترات لضرب أكواخهم في عين المكان. وإن أبعد خلال هذه الأسابيع 240 منهم في اتجاه رومانيا على متن طائرة شارتر، وهي أكبر عملية طرد خلال السنة الجارية. ومنذ انتخاب هولاند رئيسا، فإن فئة منهم لن تلبث أن تأخذ طريق العودة في الأسابيع القادمة. السياسة الأمنية على المحك إن شكل الغجر معضلة سياسية وإنسانية بالنسبة لمختلف الحكومات الفرنسية المتعاقبة، فإن مشاكل الضواحي التي فشلت في تدبيرها هذه الحكومات وبالأخص حكومات اليمين، طفت من جديد على السطح ومن غير المستبعد أن تكون أحد الاختبارات العسيرة بالنسبة لحكومة الاشتراكيين. تأتي الأحداث الدامية التي عرفتها مدينة آميان التي تبعد شمالا بمسافة ساعتين بالقطار عن باريس، لتعطي البرهان على ذلك. فقد اندلعت مواجهات في 13 غشت بين شباب قدر عدده ب100 شخص وقوات البوليس وذلك على خلفية حفل تأبين لأحد شباب الضواحي، وذلك بعد أن تدخلت الشرطة لمراقبة هوية وتفتيش بعض الأشخاص. وعادة ما تلجأ قوات الشرطة لمثل هذه العمليات بناء على سحنات الأشخاص المنحدرين من الأحياء الهامشية وبالأخص المنطقة الشمالية النائية عن مركز المدينة. وهؤلاء الأشخاص هم في غالبيتهم أفارقة ومغاربيون. وقد أسفرت هذه المواجهات عن جرح 16 من أفراد الشرطة بجروح متفاوتة. وقد أعرب كل من وزير الداخلية ورئيس الجمهورية عن عزمهما مواجهة «المشاغبين». كما استعملا خطابا بلغة متشددة جعلت البعض يذكر بنبرة ساركوزي. يبدو أن الرئيس ووزيره في الداخلية سعيا إلى سحب البساط من تحت أقدام المعارضة التي تتباهى ب»إنجازاتها» في هذا الميدان. وفي كلمة التكريم للدركيين اللذين سبق اغتيالهما في وقت سابق، رسم فرانسوا هولاند معالم السياسة الأمنية مشيرا إلى أن «الأمن ليس فحسب أولوية بل هو ضرورة». يعرف الاشتراكيون جيدا أن الامن هو أحد الرهانات الرئيسية التي ستعرف بمصداقيتهم أمام خصومهم، لكنه سيكون كذلك محكا تجاه قوى اليسار والجمعيات الحقوقية. إنها المعادلة الصعبة التي تنتظر الاشتراكيين. للعثور على أسباب هذا العنف، يجب الالتفات صوب الظروف البنيوية التي يعيشها شباب هذه الأحياء الهامشية وهي ظروف ميزتها البطالة، الفشل الدراسي، انعدام مرافق إعادة الإدماج الخ...هذا ما يفسر إحراق المتظاهرين للمدرسة، التي ينظرون إليها كأحد رموز الفشل. وقد ركز بعض المحللين، مثل لوران موكيليه، على خصوصية الصيف في اندلاع مثل هذه الحوادث. هذا الشباب الذي لا توفر له إمكانيات ولا شروط عطل لائقة ومريحة، يكرر نفس المعاش اليومي ويصبح عرضة لتحرشات البوليس. وعليه يصبح العنف إذا هو الرد اللائق. أما فابيان جوبار، وهو عالم اجتماع بالمركز الوطني للبحث العلمي، فيعزو أسباب هذا العنف إلى الفقر الذي هو محصلة تفاوت بين الأحياء الفقيرة والأحياء الغنية. وتشكل البطالة العامل الثاني ثم الهجرة الحديثة لعائلات لم تندمج بسرعة. العامل الرابع هو الاحتكاكات مع البوليس. وفي حالة مدينة آميان، فإن هذه الاحتكاكات أو المواجهات ليست وليدة اليوم، بل تعرفها المدينة منذ أزيد من عام. كان الجواب الفوري لوزير الداخلية هو تعزيز الحضور الأمني وإرسال قوات إضافية لتطويق المنطقة التي كانت مسرحا للمواجهات. وفي الغد لما وصل مانويل فالس إلى مدينة آميان لمعاينة الوضع، استقبله شباب الأحياء بعبارات قاسية للتشكي من تصرفات وتحرشات البوليس. غير أنه شدد على وجوب تطبيق العدالة ومعاقبة «الجناة» الذين أحرقوا المدرسة وبعض المرافق العمومية. ليست المرة الأولى التي تشهد فيها الضاحية الشمالية للمدينة مثل هذه الانفجارات. فقد سبق أن اندلعت أحداث في غضون هذا العام، كما شهد حي بالزاك في التسعينيات أحداث شغب عنيفة. وتكفي كلمة أو حركة من طرف البوليس، لتجنيد الشباب وخروجهم في مظاهرات. هذه المرة، لم يكتف الشباب بقذف البوليس بزجاجات أو بالحجارة بل أخرجوا البنادق لإطلاق النار، وبالأخص على قوات التدخل السريع، التي تعتبر العدو اللذوذ لهذا الشباب. أخذ هذا النوع من الأحداث موقعه في المشهد الفرنسي منذ 3 عقود. وقد شهدت أكثر من مدينة حوادث مشابهة، مثل مدينة تولوز، غرونوبل، ليون، دون الحديث عن ضواحي باريس التي تشتعل بدورها بين الفينة والأخرى. هل ستمتد أحداث الشغب التي عرفتها آميان إلى مدن أخرى؟ ينتاب هذا التخوف وزير الداخلية الذي قرر الرهان بورقة التهدئة وليس التصعيد. وبما أن مانويل فالس طالب بالرؤوس المدبرة، فقد ألقي القبض على ثلاثة شبان اعترفوا بحرق قمامات البلاستيك في الشوارع. وقد حكمت عليهم المحكمة بثمانية أشهر، مما أثار سخط بعض سكان المدينة الذين اعتبروا الجناة مجرد أكباش فداء فيما لا يزال المدبرون الرئيسيون طلقاء. أية حلول يملكها اليوم مانويل فالس لمعالجة مثل هذا الانفلات الذي يمكنه أن يتجدد في أية لحظة؟ الواضح أنه اختار تعزيز الحل الأمني وذلك بإعلانه عن توظيف 500 شرطي إضافي ابتداء من العام القادم. هل يكمن الحل فعلا في تضخيم الطاقم البوليسي مع العلم أن بلدانا أوروبية وبخاصة الشمالية منها، لا تستعرض فيها الشرطة حضورها ومع ذلك تبقى بمنأى عن أحداث الشغب؟ لذا فإن المشكل لا يكمن في قلة البوليس، بل في كثرته. أية صورة لفرنسا بالخارج؟ ثمة رهان رئيسي يطرح هذه المرة على المستوى الخارجي وهي صورة فرنسا بالخارج. انتخب اليسار لطرح بديل مناهض لما قدمه اليمين الساركوزي، وبالأخص في ميدان الحريات الفردية والعامة. فقد شوه وزراء من قبيل بريس هورتفوه، كلود غيان، إيريك بيسون، نادين مورانو، بمواقفهم وتصرفاتهم، شوهوا سمعة فرنسا. وطرح فرانسوا هولاند وعودا انتخابية لإحداث القطيعة مع هذه التصرفات، بغية الرفع من مقام فرنسا بالخارج وتحسين صورتها. فهل سينجح مانويل فالس فيما فشل فيه سابقوه دون تأليب للرأي العام الحقوقي في فرنسا وفي أوروبا؟ المهم أن النقاش داخل اليسار أخذ مجراه في اتجاه مناهض لما أقدم عليه مانويل فالس بتفكيكه لمخيمات الغجر وإعادتهم إلى بلدانهم أو لتنشيط عضلات البوليس أو رجال الدرك. وفي هذا الاتجاه حذر تقرير أعده النائب جان-جاك إيرفوا من مغبة نقل أو استنساخ المفاهيم الصادمة التي يعمل بها اليمين والقاضية بتشديد أساليب القمع. أي الكلام بلغة اليمين.
مانويل فالس بالزي الساركوزي؟ لما عين مانويل كارلوس فالس على رأس وزارة الداخلية، كانت بعض شخصيات اليمين الساركوزي أول من قدم له التهاني لتبوئه هذا المنصب، الشيء الذي لم تحظ به مثلا وزيرة العدل، كريستيان توبيرا، التي أصبحت من ألذ خصوم هذا اليمين. الود الذي أعرب عنه اليمين في حق فالس ليس بطارئ ولا جديد، ذلك أن هذا الأخير كان دائما مقربا من الأطروحات الأمنية اليمينية للأغلبية السابقة إلى درجة أنه استحق لقب "ساركوزي اليسار". وهذا ما يفسر أيضا شعبيته. وحسب استطلاع أجراه معهد بي-في-آي، فإن شعبيته تفوق شعبية الوزير الأول، حيث بلغت النسبة 71% من متعاطفي اليسار واليمين. كما أنه يقدم صورة وزير حازم متشبث بمبادئ جمهورية لا يهادن بصددها. إن كانت شعبيته موثوق منها لدى أوساط اليمين واليسار، فإنه أبعد من أن يحظى بنفس العطف في أوساط الجالية الإسلامية، بصفته وزيرا للأوقاف، وبسبب مواقفه من الإسلام بصفة عامة. فمواقفه في مسألة الحجاب، العلمانية، وموقع الإسلام في المجتمع الفرنسي، لا تشفع لصالحه. علاوة على انه أحد المؤيدين المتشددين لإسرائيل. وقد أعرب عن هذا التأييد في أكثر من مناسبة، وبخاصة خلال حفل العشاء الذي ينظمه المجلس الفرنسي للديانة اليهودية. يستغرب الكثيرون كيف أن شخصا تفرنس عام 1982 هو قيد بناء استراتيجية محكمة ضد الأجانب. ألم يقم نيكولا ساركوزي بنفس الصنيع من قبله لما جعل من طرد الأجنبي وقودا لآلته الانتخابية ؟