«لا تدعه يبقيك مستيقظا طوال الليل لأن اللغز لن تستطيع حله والأسئلة لن تجد لها أجوبة»، لكن في «أسرار غامضة طبعت التاريخ» نقوم بالإحياء الدرامي الدقيق لتلك الأسرار التي ألهمت الخبراء وأثارت اهتمامهم وأذهلتهم لقرون وعقود وجعلت من شخصياتها أساطير في الذاكرة. سوف نقوم بكشف حقيقة بعض الشخصيات الأسطورية من خلال اكتشاف أدلة ونظريات جديدة. هي أعنف جرائم القتل المتسلسل في التاريخ الأمريكي.. في عام 1965 اعترف ألبرت دي سالفو بأنه سفاح بوسطن، لكنه لم يعترف بال11 جريمة جنسية وحشية.. ليس هناك دليل مادي يربط دي سالفو بالجرائم ولا براهين تشير إلى أنه السفاح. هل كان ألبرت دي سالفو، فعلا، سفاح بوسطن أم إنه باحث عن الشهرة فزيّف اعترافا؟ هل أفلت القاتل الحقيقي أو القتلة من العقاب؟ نعيد فتح قضية سفاح بوسطن بناء على أدلة علمية وجنائية جديدة تعيد ألبرت دي سالفو إلى دائرة الضوء، بعد أكثر من 40 عاما من اتهامه في جرائم قتل متسلسلة ووفاته في ظروف غامضة. هلع في بوسطن صيف عام 1962، مدينة بوسطن محاصرة بسلسلة جرائم قتل لم يسبق لها مثيل.. كانت هذه الجرائم الجنسية الشنيعة تلهب المشاعر في المدينة، فقد وجدت 11 جثة لامرأة مخنوقات بجواربهن وملابسهن الداخلية.. أول الضحايا هي آنا سلاسرز، مطلقة في الخامسة والخمسين، عاشت وحيدة في حي باكبي في بوسطن. من موقع الجريمة استنتج المحققون أن آنا كانت تستمع إلى أوبرا من مشغل الأغاني وكانت على وشك الاستحمام. قُتلت في ال14 من يونيو 1962. لم ير أحد في البناية من يشتبه فيه أو يصعد إلى شقتها في الطابق الثالث.. ككل هذه الجرائم، ليس هناك دليل على الاقتحام أو صراخ يسمعه الجيران. لا بد أن آنا أدخلت قاتلها إلى بيتها بكامل إرادتها. بيّن التشريح أن القاتل اعتدى على أنا جنسيا باستعمال أداة، قبل أن يخنقها حتى الموت بحزام ردائها المنزلي.. سيصبح الرباط حول رقبة آنا العلامة المميزة لسفاح بوسطن.. لقد لفّ بطريقة مميزة حول رقبتها، وقبل المغادرة عبث القاتل بممتلكاتها لكن معظم أشياء آنا القيّمة لم تُلمس. في البداية، سجلت وحدة بوسطن لجرائم القتل القضية على أنها جريمة قتل ارتكبها معتوه، ولخص أحد المحققين الأمر بأنه اقتحام روتيني مع بعض التعقيدات. في 4 يوليوز من نفس السنة، عرفت شرطة بوسطن أن هناك أمرا بشعا يحدث، لقد وُجِدت جثتان أخريان كلتاهما لامرأتين في عقدهما السادس، اعتُدي عليهما جنسيا وتم خنقتا بجواربهما. في كل قضية كانت الجثة في وضع خليع، لزيادة الصدمة، كانت سيقان القتيلتين متباعدة، مما كشف عن عورتهما وحتى أفراد الشرطة المتمرسون صُدموا من المنظر.. في الصحف تصدرت عناوين «الخانق ذو الجوارب الحريرية» خبر الصفحات الأولى وماطلت الشرطة في الاعتراف بأن الجرائم متصلة. في غشت من نفس السنة، وجدت جثتان لامرأتين مسنتين أخريين، وصارت بوسطن في حالة هيسترية وأفرغت النساء مأوى الكلاب بحثا عن كلاب لحمايتهن، كما قمن بحمل السكاكين تحسبا للاعتداء. في دجنبر، قتل السفاح ضحيتين جديدتين، صافي كلارك، تلميذة في ال20 من عمرها، وباتريشيا بيسات، في عمر ال23 .. لقد تغير «ذوق» السفاح في اختيار ضحاياه بصورة ملحوظة. عادة، يلتزم السفاحون بنوع واحد من الضحايا. أما ضحايا هذا السفاح فمتنوعات، في البداية، كن مجموعة من كبار السن البيض، ثم فجأة كانت الضحية التالية سوداء جميلة.. في ماي من عام 1963، عبَر القاتل النهر إلى كيمبريدج، وكانت الضحية بيفرلي، طالبة في الدراسات العليا، وجدت في شقتها قرب الحرم الجامعي. بيّن التشريح أنها ماتت بسبب الطعنات المتكررة في صدرها وبرز تغير نحو العنف في طريقة القاتل. وظهر أن الجوارب حول رقبتها لم تكن مُحكَمة، ما دفع شرطة كيمبريدج إلى الاعتقاد أن هذا تقليد للقاتل. في البداية، بدأت الصحف بتسمية النساء، كبيرات السن، يُقتلن خنقا بالجوارب وفي الواقع خلقت نموذجا لجرائم قتل لأي شخص أراد التخلص من امرأة مزعجة.. في الخريف انتقلت جرائم القتل إلى الضواحي وارتكبت العاشرة في لورانس، لقد بدأ السفاح في التوسع. يعمل 2600 شرطي بجد في ثلاث مقاطعات لحل القضية، لكنهم لم يجدوا أي دليل، وبدؤوا يشعرون باليأس. لقد نفذ صبر الرأي العام، وقرر إدوارد بروك، النائب العام في ماسوشيست، أن يعالج الأمر بنفسه وشكّل قوة القبض على سفاح بوسطن، بعد أن دار جدل بين المقاطعات على حق التحقيق في جرائم القتل هذه. لقد أراد الجميع رؤية اسمه في الصحف بأنه هو من أمسك بالسفاح.. مرت سنة أخرى وأحد أكبر محققي الجرائم في تاريخ أمريكا يفشل في القبض على المتهم الرئيسي. سقوط السفاح إيف لي بيلي، محام شاب طموح، سيصنع شهرته بسبب هذه القضية. في مارس عام 1965، وبعد 3 سنوات من المطاردة الفاشلة، عرض بيلي تقديم القاتل على طبق من ذهب. تعرّف على دي سالفو، الذي كان في مصحة بريدج ووتر النفسية، في انتظار محاكمته بتُهم اعتداءات جنسية، عرف باعتداءات الرجل الأخضر عن طريق موكله الآخر، جورج ناصر. تولى جون باتمنلي، محامي عقارات، الفرصة للاستجواب، وهو محامي عقارات بدون خبرة، عيّنه صديقه المدعي العام روبرت بروك. اعترف دي سالفو بأنه سفاح بوسطن.. كان يعرف حقائق لا يعرفها سوى القاتل. كانت إجابته تلقائية ولم يتردد قط. كانت هناك آلاف التفاصيل في موقع الجريمة وكان ألبرت دقيقا في معظمها، يعرف نوع أثاث الشقة والملابس، كل شيء، حتى زخرفة خشب السرير.. أجاب عن خمس أسئلة، سُمّيت الأسئلة الخمس الكبرى، لا يمكن أن يجيب عنها سوى القاتل، بسرعة دون تردد، سؤالان مرتبطان بصوفي كلارك، تلميذة كلية الطب، كانت أولى ضحايا الشابات. وفي اعترافه وصف بدقة: كانت المرأة التي فتحت الباب ترتدي قميصَ نوم وجوارب.. وقال إنه جرّ صوفي من الخلف، وفوجئ بسرعة إغمائها. وصف دي سالفو كيف استعادت وعيها وكيف ربط الجوارب بقوة. عرف أن لديها تحت الكرسي قطعة قماش. والسؤال الآخر عن علبة سجائر، التي وقعت من المكتبة ولم يستطع أحدٌ رؤيتها.. أغلق ملف الجرائم ال11 بجرة قلم بعد اعتراف دي سالفو، ولم تجر محاكمة لهذه القضية في المحكمة واعتبر مذنبا بناء على اعترافاته.. الموت الغامض بعد 6 سنوات، مات دي سالفو في السجن بطريقة غامضة وفي ظروف غامضة. يظن البعض أنه كان سيتراجع عن اعترافه، لكنّ أحدهم قتل ألبرت ليُسكته. وإذا لم يكن دي سالفو سفاح بوسطن فمن يكون، إذن؟ طُعِن ألبرت حتى الموت داخل سجن شديد الحراسة، ويعتقد كثيرون أنه لم يكن عنفا عشوائيا في السجن. حسب أقوال عائلته وطبيبه النفسي فقد كان على وشك التراجع عن اعتراف،ه ويعتقد أنه قُتِل لتبقى الحقيقة مطمورة. طلب دي سالفو رؤية طبيبه عام 1973 وفي صباح التالي، أعلنت الصحف عن طعن ألبرت دي سالفو حتى الموت على فراش سجنه.. قبل أسبوع من وفاته، كان قد طلب النوم في مستوصف السجن، لأنه يخاف عن حياته. لقد دخل القاتل بعد اجتياز ست نقط تفتيش وبواسطة سكين طعن دي سالفو 16 مرة في القلب وخرج واجتاز نفس ست نقط التفتيش.. وجدت أيضا ترسبات الفاليوم في شعر دي سالفو، وفي الليلة السابقة لوفاته، اتصل بأخيه وأخبره أنه تناول شيئا غريب الطعم. قال مسؤول السجن إن وفاة ألبرت تعود إلى تورطه في بيع المخدرات.. كانت أسعاره رخيصة لذلك قتلوه.. التشكيك في الاعترافات بعد 16 سنة، قامت سوزان كيلي، صحافية، بأبحاث عن السفاحين وأصبحت الشكوك علنية، بعد أن أكد لها كل شرطي في بوسطن تكلمت معه أن دي سالفو ليس سفاح بوسطن. كانت سوزان أول صحفية تحصل على نسخ من اعترافات دي سالفو وفوجئت بأنها كانت غير دقيقة في مواقف عدة. تقول سوزان: «مما يدل على عدم الدقة هذه أنه دخل شقة إحدى القتيلات -آيدا إيرغا- في الساعة الثانية ظهرا، بينما كانت آيدا رفقة صديق لها في الحديقة العمومية إلى غاية الساعة السادسة مساء. كانت أخطاء دي سالفو واضحة في قضية بيفرلي، فقد وصف كيفية دخوله شقتها وبأنه طعنها بسكين مسروق في الصدر والحنجرة وأنه تخلّص من السكين بعد مغادرة مسرح الجريمة، لكنْ تبيّن أن السكين المُستعمَل في الجريمة هو سكين مطبخ لبيفرلي». قال آندي تيوني، وهو محقق سابق: «لم يكن كل من كان يعمل على القضية مقتنعا باعترافات دي سالفو، وأسلوب الاستجواب كان خاطئا، لم يدر بصورة صحيحة». فحص سول كاسن، أستاد الجريمة في جامعة جون جاي، نسخ الاعتراف وأكد أن أسئلة المحقق جون كانت المرشدة لدي سالفو. وجد أيضا قصة أدلة منتشرة في الاعتراف تدل على أن دي سالفو يشير إلى أشياء يبدو أنها موجودة في غرفة الاستجواب، كان يقول: «هذا ما فعلته هنا كأنه ينظر إلى صور». تثبت تفاصيل «اعترافات» دي سالفو براءته، فالألفا صفحة من اعترافاته تُبيّن أخطاء جسمية.. هناك اختلاف كبير بين قصة ألبرت وتقارير مسرح الجريمة وتقارير التشريح والمعمل الجنائي. حصلت سوزان على قائمة مشتبَه فيهم آخرين أوقفت الشرطة البحث معهم بعد اعتراف دي سالفو. في قضية صوفي كلارك، مثلا، أكدت إحدى الشهادات أنه في نفس اليوم الذي قتلت فيه صوفي جاء شخص غريب إلى بابها، مدّعياَ أنه يريد طلاء شقتها، وعندما أخبرته أنها ستستفسر من زوجها، غادر على وجه السرعة، وعند إطّلاعها على صور دي سالفو قالت إنه ليس الشخص نفسَه.. يؤكد ابن أخت الضحية ماري سوليمان أن الشرطة تركت القاتل في صورة مريبة، وقد سبق أن خضع لجهاز الكذب وفشل واتهمت دي سالفو، علما أن جارة لها شاهدت من نافذتها رجلا بشعر أحمر ينظر في مرآة حمام ماري سوليمان يوم مقتلها.. يعتقد الكثيرون أن حل لغز سفاح بوسطن يكمن في الاعتماد على التحاليل الجنائية الجديدة والحمض النووي. قضية مفتوحة استفاد الكثيرون من قصة السفاح بوسطن، رئيس القوة الخاصة جون باتمنلي انتهى به الأمر كمستشار في هوليود في الفيلم العالمي «سفاح بوسطن» وصُوِّر على أنه محقق بطل، إدوارد بروك أصبح سيناتورا أمريكيا، وفي الفترة الأخيرة، قال بروك إنه ليس متأكدا من ضلوع دي سالفو في تلك الجرائم. حصل إيف لي بيلي، الذي هندس صفقة اعتراف دي سالفو، على أتعابه من حقوق بيع كتاب حول سفاح بوسطن وأصبح ألمع المحامين الجنائيين. لكنْ مثل الشبح تستمر قصة شبح دي سالفو، ففي العام 2001، حين أخرجت عائلته جثته للتحقيق في قصة موته الغامضة فوجئت باختفاء أعضائه الرئيسية، دماغه، كليتاه، رئتيه وكبده.. لم يكتب بعدُ الفصل الأخير لأشنع جريمة غامضة في التاريخ، وحتى ذلك الوقت ستبقى ملفات الشرطة ل11 جريمة مفتوحة على كل الاحتمالات.