في الأيام السابقة للعيدين الفطر والأضحى تتوجه الأنظار بشكل كبير إلى المحطات الطرقية، التي يكثر الإقبال عليها في هاتين المناسبتين، بسبب رغبة مجموعة من المواطنين في قضاء أيام العيد في مدنهم الأصلية وبمعية أفراد عائلاتهم. «المساء» قررت زيارة المحطة الطرقية «اولاد زيان»، التي تعتبر نموذجا لما يقع في عدد من المحطات الأخرى خلال الأيام السابقة لعيد الفطر، سواء من حيث الاكتظاظ، أو رفع أسعار التذاكر أومزاحمة «الكورتية» جلس عبد القادر (اسم مستعار لمواطن في مدينة الدار البيضاء) في قاعة المحطة الطرقية «اولاد زيان» يقرأ جريدة رياضية كانت بين يديه، يقلب صفحاتها الداخلية لعله يطلع على خبر جيد في زمن رياضي نتائجه سيئة في كل الأنواع الرياضية في هذه السنوات العصيبة. لم يكن عبد القادر في زحمة القراءة يأبه بما يجري حوله من صراخ وضجيج، كان صداهما يصل إلى خارج القاعة، فبالنسبة إليه كل الأمور عادية، وليس هناك ما يشبع فضوله. هذه أول زيارة لي للمحطة الطرقية، يقول عبد القادر. ويضيف "جئت إلى هنا لأمر واحد هو استقبال أختي التي تود قضاء أيام عيد الفطر رفقة العائلة. تبدو الأمور بالنسبة إلي في هذه المحطة عادية جدا". بدت المحطة الطرقية في الأيام السابقة لعيد الفطر كخلية نحل، فإذا كنت تبحث عن مكان للهدوء والطمأنينة فحتما ليس المكان المناسب هو المحطة الطرقية، فكل الكلمات الدالة على الضجيج والصراخ تشكل العناوين البارزة لها في هذه الأيام. أسماء المدن أسماء المدن تتلألأ في سماء محطة «اولاد زيان». لن تتعب كثيرا في إيجاد الحافلة التي تنقلك إلى وجهتك المفضلة، فبمجرد أن تطأ قدماك الأبواب الرئيسية للمحطة حتى تبدأ في سماع مدن من قبيل طنجة، الرباط، الجديدة، زاكورة، آسفي...، الأمر وإن كان يظهر في الأيام العادية عاديا مادامت القضية تتعلق بمحطة طرقية، فإن ذلك يزداد شراسة أيام العيد، حيث يتسابق مستخدمو الحافلات على جلب أكبر عدد من المسافرين، رغم أن الأمر لا يحتاج إلى هذا الجهد، لأن الإقبال يكون كثيرا في مثل هذه المناسبات. ويصرخ أحد المستخدمين: "الجديدة على لطوروت"، ليرد عليه زميله: "زيد.. زيد، طنجة طنجة". هذا المشهد إلى جانب مشاهد أخرى تؤثث الفضاء الداخلي والخارجي لأكبر محطة في المغرب، التي كان الغرض من إنشائها في تسعينيات القرن الماضي تنظيم عملية النقل عبر المدن في العاصمة الاقتصادية للقطع مع المحطات العشوائية التي كانت منتشرة في المدينة من قبيل "بنجدية" و"كراج علال"، لكن الأمور لم تسر على أحسن وجه، إذ لم تتمكن هذه المحطة الطرقية من وضع حد لمجموعة من الممارسات التي كانت سائدة في هاتين المحطتين. الاستسلام للنوم ليس بعيدا عن عبد القادر جلس رجل في عقده السادس يراقب الحركية التي تعرفها المحطة "أيام العواشر". ويؤكد هذا الرجل أن الإقبال يزداد بشكل كبير في فترة الليل، لأن العديد من المسافرين يجدون صعوبة في السفر خلال الصيام. وليس هذا الرجل وعبد القادر وحدهما اللذين كانا جالسين في قاعة المحطة، فقد كانت المحطة تعج بالعشرات من المسافرين، الذين كان من بينهم من استسلم للنوم. كان العدد الذي يوجد في القاعة ضئيل جدا، لكن بمجرد أن تطأ قدماك المكان المخصص للحافلات حتى تصطدم بأفواج المسافرين، الذين ينتظرون قدوم الحافلات التي ستقلهم إلى حيث يريدون. ويحرص هؤلاء المسافرون على وضع حقائبهم بين أرجلهم، خوفا من أن يتعرضوا للسرقة والنهب، التي تكثر في هذه المناسبات. قلة أماكن الجلوس في هذا المكان تجعلهم مكدسين في مكان واحد، ففي بداية انطلاق العمل بهذه المحطة كان ولوج المكان المخصص للحافلات ممنوعا، لكن سرعان ما تحولت الأمور ليصبح هذا المكان شبيها بسوق أسبوعي. المشهد الخارجي نحن الآن في حوالي الساعة الثالثة من زوال يوم الجمعة الماضي.. هدوء يعم محيط المحطة الطرقية. لاشيء يوحي بأن الأمور تختلف داخلها. حافلات تركن في شارع «اولاد زيان» وبالقرب من ملعب المرحوم "بكار"، ومستخدمو هذه الحافلات يحاولون بطرقهم الخاصة إقناع المسافرين بعدم جدوى الدخول إلى المحطة من أجل تجنب الانتظار، كما أن أثمنة التذاكر تكون أقبل بالمقارنة مع الحافلات التي تختار الدخول إلى المحطة، وفي مناسبات كثيرة تشن السلطات الأمنية حملات ضد هذه الحافلات، لكن في أيام الأعياد يتم غض الطرف عنها، فالمهم في هذه اللحظة توفير أكبر عدد من الحافلات وتسهيل مأمورية المواطنين الراغبين في قضاء أيام العيد رفقة أسرهم في مدن أخرى. المشهد الداخلي المشهد خارج المحطة يختلف عما يجري داخلها، فلا صوت يعلو على أصوات "الكرسونات"، وليس كالأيام العادية، فالرواج يزداد حدة في هذه المناسبات، حيث يكثر الإقبال على المحطة، لأن هناك مئات من المواطنين لا يحلو لهم قضاء أيام العيد إلا مع عائلاتهم، ويكونون مستعدين لأداء أي ثمن يطلبه أصحاب الحافلات من أجل هذا الغرض. يقول أحد المواطنين إن "الثمن أيام العيد يتضاعف بشكل كبير، فعوض 100 درهم للذهاب إلى أكادير يصل ثمن الرحلة إلى 150 درهما"، ويمكن أن يصل الثمن إلى أقصى من ذلك، حسب الطلب على السفر، ففي بعض الأحيان لا يجد المسافرون الحافلات الكافية لنقل المسافرين إلى وجهتهم، مما يضطرهم إلى الارتماء في أحضان الطاكسيات التي بدورها يتضاعف ثمنها بشكل ملفت، أو الالتجاء إلى «الخطافة»، وفي كل الأحوال يكون ثمن التذكرة مضاعفا بالمقارنة مع الأيام العادية. الأثمنة الحارقة رغم التذمر الذي يشعر به العديد من المسافرين جراء الزيادة في ثمن الحافلات، فإن هذا الأمر أصبح متجاوزا بالنسبة إليهم، لأنهم اعتادوا على مثل هذه الممارسات. يقول المسافر ذاته: "رغم الأثمنة المرتفعة، فإن ما يسجل هو جودة الحافلات، حيث إنها جيدة بالمقارنة مع الماضي". بالنسبة إلى هذا المواطن فإن 150 درهما كثمن لتذكرة حافلة إلى أكادير في هذه الظرفية جيد، لأن نوعية الحافلة تستحق هذا الثمن. شهر الصيام "راه في الحقيقة ما كاين لا رواج ولا والو، القضية ناعسة بزاف هاذ الأيام" بهذه العبارات أجاب مستخدم في إحدى الحافلات على سؤال حول طبيعة الإقبال على المحطة الطرقية «اولاد زيان» خلال الأيام السابقة للعيد، إذ بالنسبة لهذا المستخدم، الرواج قليل بالمقارنة مع السنوات الماضية، ويرجع هذا الأمر إلى تصادف شهر الصيام مع العطلة الصيفية، إضافة إلى التنافس الشرس لبعض «الخطافة». ويقول: "لا يمكن الحديث عن أي رواج خلال هذه السنة، فالأمور عادية جدا، والإقبال ضعيف من قبل المسافرين، نظرا للمنافسة المفروضة من بعض الخطافة"، ويضيف بعصبية "راه الخطافة دارو حالة، وهادشي انعكس على الرواج داخل المحطة الطرقية". كما أنه خلال السنوات القليلة الماضية أصبحت القطارات تشكل بدورها منافسا شرسا للحافلات، إذ يقول زميل هذا المستخدم إن "العديد من المسافرين أصبحوا يفضلون القطارات على الحافلات، وهو الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الإقبال على الحافلات بالمقارنة مع ما كان يحدث في السنوات الماضية، إضافة إلى أن مجموعة من المواطنين أصبحوا يمتلكون سياراتهم الخاصة، دون نسيان الطاكسيات و»الخطافة»، فكل هذه الأمور تتسبب في قلة الرواج". عيد الكبير ويعتبر أحد المواطنين الذي اعتاد قضاء العيد خارج الدار البيضاء أن حجم الرواج الذي عرفته المحطة الطرقية في الأيام الأخيرة عادي جدا، على اعتبار أن الإقبال الكبير يكون خلال أيام عيد الأضحى، وقال إنه "خلال أيام عيد الأضحى يكثر الإقبال على المحطات الطرقية، لأن الكثير من المواطنين يرغبون في قضاء هذا العيد بمعية أسرهم، عكس أيام عيد الفطر، فهناك من يغض الطرف عن السفر في هذه المناسبة ويؤجل ذلك إلى عيد الأضحى". ويضيف "لا يمكن بأي حال المقارنة بين العيدين، حيث الإقبال على المحطة الطرقية في عيد الأضحى يبدأ أسبوعا قبل الاحتفال بهذا العيد، لأن مجموعة من المواطنين يرغبون في قضاء هذا العيد مع عائلاتهم"، وهناك من يؤكد بأن تزامن رمضان مع العطلة الصيفية ساهم هو الآخر في قلة الرواج هذه السنة، حيث إن هناك مجموعة من العائلات قررت السفر خلال شهر رمضان. «الحكرة» ورغم الاختلاف في وجهات النظر حول حجم الرواج هذه السنة، فإن هذا لا يمنع من وقوع بعض المشادات الكلامية بين العمال في هذه المحطة، إذ تصادف وجود "المساء" مع مشادة بين اثنين من المستخدمين، كادت تتطور إلى أمور غير محمودة العواقب. وقد بدأت حينما حاول أحد المستخدمين استمالة راكب لامتطاء الحافلة التي يشرف عليها، مما جعل زميله ينتفض في وجهه قائلا: "ما عندكش الحق، راه هاذي النوبة ديالنا، والساعة ديالنا"، فرد عليه "واش دابا وقت السوايع، قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وبقدر ما كان هذا الأخير يحاول ضبط أعصابه، ثار الآخر في وجهه، معتبرا أن ما وقع "حكرة" في حقه ولا يمكن السكوت عنها "راني ولد درب الفقرا، وهاذي راها حكرة". مثل هذه المشادات تتكرر في اليوم أكثر من مرة داخل المحطة الطرقية، لأن كل الأشياء التي يمكنها أن تؤدي إلى الفوضى داخل المحطة متوفرة، إذ لا وجود لاحترام مواعيد انطلاق الحافلات، كما أن الجو العام لا يساعد بدوره على شيوع النظام، مما يسمح لمثل هذه الممارسات بأن تكون سائدة. ولا يتعلق الأمر فقط بأيام الأعياد، بل طيلة السنة، مما يجعل مواطنين عديدين يفضلون وسائل نقل أخرى بدل استعمال حافلات المحطة الطرقية، حتى لو اقتضى بهم الحال انتظار الحافلات في الطريق السيار الحضري تجنبا "لصداع الراس". الباعة المتجولون ومن بين الأشياء الدالة على الفوضى داخل المحطة الطرقية في الدارالبيضاء انتشار الباعة المتجولين، فهذه الفئة تفضل بيع سلعتها داخل المحطة وفي الحافلات، وهو عبارة عن بائعي النظارات الشمسية وأوراق المنديل، ويشكل العيد بالنسبة إليهم فرصة لكسب المزيد من الأموال، لأن الإقبال على السفر يزداد في هذه المناسبة. يقول أحد من هؤلاء الباعة: "راه الرواج شوية مزيان، وانت تتشوف بعينيك، واش باغي تكتب عليهم". ويرسم هذا البائع ابتسامة عريضة على محياه، ويغادر في صمت غير مهتم بما يجري حوله، لأن كل ما يشغل باله هو بيع سلعته وعدم تفويت الفرصة التي لا تعود إلا مرتين في السنة. تركت "المساء" المحطة الطرقية وهي تستعد لاستقبال أفواج أخرى من المسافرين في ظل غياب أدنى شروط النظام، الذي عادة ما يجب أن يتوفر في مثل هذه المحطات. ومرة أخرى يكشف العيد الخلل الكبير الذي تعانيه هذه المحطة، التي كانت السلطات المحلية والمنتخبة في المدينة سنوات التسعينيات تؤكد أنها ستكون أهم محطة طرقية ليس فقط وطنيا، ولكن عربيا وإفريقيا، ليكتشف الجميع بأن ذلك مجرد حلم جميل، وأن الأجواء داخلها لا تختلف كليا عن ما كان يحدث في "بنجدية".
الرخص الاستثنائية ليست هي الحل في هذه المناسبات في كل سنة يعيش قطاع نقل المسافرين بكل أصنافه مشاكل في توفير وسائل النقل و في التعريفة المتعلقة بنقل المسافرين أو في قطاع سيارات الأجرة الرابطة بين المدن. فبالنسبة إلى المحطات الطرقية لنقل المسافرين أكدنا في عدة مناسبات مع الحكومات السابقة على أنه يجب العمل على تنظيم هذه المحطات بجميع مرافقها، وحماية المواطنين والعمل على محاربة التسيب داخل المحطات وخارجها، سواء بالنسبة لاحترام معايير تسعيرة التذاكر أو الظروف المناسبة لوسائل النقل. التراخيض الاستثنائية التي توفرها وزارة النقل في هذه المناسبات ليست هي الحل لهذه الأزمة، وكذلك التدابير المرتبطة باللجنة المتكونة من سلطات محلية، والإدارة العامة للأمن الوطني، وإدارة المحطات الطرقية، والمديريات الجهوية أو الإقليمية للتجهيز والنقل، والتي لا يذكر اسمها من طرف الوزارة الوصية، إلا في هذه المناسبات، لأن محاربة كل ظواهر التسيب والاختلالات الحاصلة في هذا القطاع يجب أن تكون عبر العمل ببرنامج عمل على مدار السنة وبمشاركة تمثيليات أرباب النقل والسائقين. قطاع نقل المسافرين من القطاعات المهمة في بلدنا، فهو يتحمل عبئا كبيرا في توفير خدمات للمواطنين، غالبيتهم من الطبقات الفقيرة، وللأسف لا تعطي الدولة اهتمام لهذا القطاع، والدليل هو أننا ما زلنا نعيش عهد عبودية اقتصادية الريع في هذا القطاع، لتوفر بعض المسؤولين في هذا البلد على "الكريمات" بالجملة، والضريبة يؤديها المواطن البسيط والسائق المهني على حد سواء. في الآونة الأخيرة عشنا تحولات في المجال الاقتصادي انعكست سلبا على القدرة الشرائية للمواطن الضعيف، فالزيادات الأخيرة في المواد الاستهلاكية، ومن بينها الزيادة في المحروقات، كانت من أهم المشاكل المباشرة التي خلقت توترا بين المهنيين والمواطنين في التسعيرة، لأن برنامج الدولة في هذا الشأن يجب ألا يغفل هذا الأمر ومراعاته للقدرة الشرائية للجميع، وفرض ضرائب مهمة على المستفيدين من "الكريمات" وخيرات هذا البلد. إذا كنا نريد توازنا عادلا والخروج من الأزمة فلا بد من مقاربة تشاركية حقيقية. نظام "الكريمات" وتحكم لوبيات القطاع في هذا المجال من الأشياء الرئيسية في تفاقم المشاكل التي نعيشها كل سنة، دون إيجاد حلول لها. الحكومة الجديدة مطالبة بتصحيح برنامجها واحترام العلاقة القانونية والتنظيمية التي تربط الحكومة بالتمثيليات المهنية وفتح مجال للحوار معها للخروج بالقطاع من أزمته، وكما يقول المثل "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر". إن اللقاء الذي جمع رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران ووزير التجهيز والنقل بالباطرونات في قطاع النقل وإقصاء تمثيليات أرباب وسائقي قطاع النقل كان سببا في تأزم الوضع وفقد الثقة في هذه الحكومة. مثل هذه الممارسات عهدناها في الولايات السابقة وناضلنا من أجل محاربتها، واليوم نعيش أخطاء الماضي. المهنيون لا يريدون اعتذارات، بل يريدون إصلاحا في قطاعهم، ومحاربة الفساد فيه، ونحن مستعدون لربيع مهني في قطاع النقل، والتاريخ يشهد لنا بذلك من خلال الإضرابات الأخيرة لسنتي 2007 و 2009.. الأمين العام لمنظمة الفدرالية الوطنية لمهني النقل - مصطفى الكيحل