تحكي ليلى الطرابلسي، زوجة الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بنعلي، لأول مرة، روايتها لما يعرف ب«ثورة الياسمين». في هذه الحلقة، تروي الطرابلسي تفاصيل يومها الأخير في تونس. تعود إلى الأحداث التي ميزت 14 يناير 2011. ترفض أن يقال إن زوجها هرب من مواجهة شعبه.كما تنفي الإشاعات التي تحدثت عن تهريبها أطنانا من الذهب من البنك المركزي التونسي وملايين الدولارات، وتكشف الذهول الذي أصاب بنعلي بعد تأكد إبعاده من تونس وتفاديها بمعية أسرتها متابعة القنوات التلفزيونية هربا من سيول الاتهامات والشهادات المزورة والحكايات المغلوطة والتصريحات المشينة التي انهمرت عليهم من كل حدب وصوب.
لماذا فشل زواجي الأول؟ كان م. قبل زواجي منه يقطن في منزل مجاور لثانوية «مونتفلوري»، التي تابعت فيها دراساتي الثانوية. كنت أراه يوميا أثناء مغادرته البيت صباحا وحين يعود إليه مساء. وبعد سنتين، تقدم لخطبتي وقبلت الاقتران به. هل كان م. زوجا مثاليا؟ هذا ما اعتقدته أول الأمر. لن أكيل له الاتهامات أو أفرط في تحميله مسؤولية الفشل. كل ما يمكنني قوله أن الحب الذي أحاطني به والدي جعلني أحلم بأن أحظى بحب كبير من قبل قلب كبير. بحثت عن إحساس فريد لدى الرجال. ولذلك، كان ينتابني إحساس بأنهم لا يحبونني كثيرا مهما بلغ حرصهم على إظهار حبهم لي وتأكيد تشبثهم بي. كان يتملكني انطباع بأنهم لا يحبونني حقيقة. لكن لم أقنط من إمكانية حصولي ذات يوم على هذا الحب الكبير، وإن بلغ بي الأمر حد التشكيك في وجوده على أرض الواقع. بذل زوجي الحالي قصارى جهده من أجل تحصيني من هذه الشكوك وملء تلك الفراغات، وإني أثق به. غير أنني، بحكم الوضع الذي أوجد فيه حاليا، لا أثق، كفاية، في مشاعر من كانوا مقربين منا، ولا سيما أولئك الذين تهافتوا على التقرب من زوجة رئيس الدولة، والذين رأوا في شخصي «الوصية على عرش قرطاج»، رغم أنني لم أكن قط كذلك، والذين كان همهم الاستفادة إلى أقصى حد من سخائي ونفوذي، والذين لم يفوتوا فرصة لإظهار حبهم لنا، وكان هذا الحب، في الواقع، مجرد حلية لينالوا مرادهم منا. تعتبر هذه الأمور من الأشياء التي تؤرقني في حياتي الراهنة، ولا أخجل من الاعتراف بهذا. اقترنت بزوجي الأول حين بلغت الثانية والعشرين. كان م. رجلا شهما ومخلصا، لم يشعرني يوما بالإهانة. حاولنا إنجاب أطفال طيلة أربع سنوات دون جدوى. أجهض حملي مرات عديدة، وكان في كل مرة يقف إلى جانبي ويدعمني بقوة. أعتقد بأنه أحبني، ولكنني لم أستطع مبادلته الحب بالحب. كما أننا كنا شابين في أول حياتهما وافتقرنا للقدرة على مواجهة مشاكل الحياة الزوجية. ولم نستطع إنجاب أطفال من أجل توطيد علاقتنا وتقوية روابطنا. كانت كل المؤشرات تنبئ بطلاق وشيك.
التحقت بالمدرسة في سن السادسة. كانت البداية من مدرسة ابتدائية كانت توجد في زنقة الباشا، قبل أن أنتقل إلى مدرسة الدكتور قصاب، ثم التحقت بعدها بثانوية «مونتفلوري». للأسف، لم أستطع الذهاب بعيدا في دراستي. اجتزت امتحان الباكلوريا ثلاث مرات، باءت جميعها بالفشل. أغلقت أبواب الدراسة في وجهي، ولم أجد بديلا عن الولوج إلى سوق الشغل. نجحت في الحصول على شهادة في تقنيات الكتابة بالآلة، ومنحت وظيفة مساعدة إدارية في إحدى الشركات التابعة لمجموعة «لوباتيمون». أريد، بهذه المناسبة، أن أفند جميع الإشاعات المتحدثة عن بحصولي على شهادات عليا من جامعات متواطئة، وكذلك الإشاعات المدعية حصولي على شهادات تقديرية من جامعات معينة بطرق ملتوية. لم أحصل قط على شهادة الباكلوريا. ولذلك لم أحصل مطلقا على شهادة الإجازة، ولا على شهادة الدراسات العليا، فكيف أحصل على شهادة الدكتوراة. كما لم يمنحني أحد هذه الشهادات. تحدث البعض عن حصولي على تنويه من قبل بعض الأساتذة وهيئات مناقشة الأطروحات الجامعية، وهذا أمر عار من الصحة. قيل إن عبد العزيز بن دهية، المستشار الأول لزوجي، اقتطع جزءا من وقته لإعطائي دروسا متنوعة وتمكيني من تعليم جامعي في شعبة الحقوق. هذه أيضا ادعاءات وافتراءات لا أساس لها من الصحة. لم يمنحني بن دهية أي دروس في الدعم والتقوية، ولم يسبق لي أن لجأت إلى خدماته، سواء في الأمور الشخصية أو غيرها. يحدث أن أصافحه حين ألتقيه في الحفلات والاستقبالات الرسمية، ولم يسبق لي أن صافحته يدا بيد إلا مرتين أو ثلاثا خارج إطار ضرورات البروتوكول، على غرار أعضاء آخرين في الحكومات التي تعاقبت على تدبير شؤون البلاد في عهد زوجي. وعكس ما تم التلميح إليه عقب رحيلنا عن تونس، كنت دائمة التحفظ عن التدخل في شؤون الحكم. أعترف بأنني وددت لو تمكنت من مواصلة دراستي إلى مستوى متقدم. كنت أحصل على معدلات جيدة في اللغة العربية، وحلمت بأن أصبح أستاذة. كانت المطالعة أحد أنشطتي المفضلة. كنت أطالع بشغف كتابات الكتاب العرب أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، اللذين شكلت كتبهما، إلى جانب كتاب آخرين، النواة الأولى لمكتبتي التي رفضت التخلي عنها وأصررت على نقلها معي أينما ارتحلت. ظل منزلنا مبعث سعادتي في مراهقتي حتى بعد أن تسلمت جدتي من أمي مسؤولية تدبيره بعد وفاة والدي. أما أمي فقد انشغلت بتربيتنا، وكانت لشدة انشغالها تكتفي، في أحسن الأحوال، بمنحنا قبلة واحدة يوم العيد. ومع ذلك، كنا نعرف كيف نزرع الفرح والسرور في البيت. كنا نعرف كيف نتعايش، جميعنا، في طمأنينة وسعادة. عند حلول فصل الصيف كنا نضع طاولة في ركن من فناء المنزل، ثم نضع فوق الطاولة مذياعا أو جهاز تلفاز من أجل متابعة حفلات أم كلثوم ومشاهدة الأفلام المصرية. وفي الليل كنت أنام بمعية أخواتي نفيسة ومنيرة وجليلة وسميرة في غرفتين تفضي الواحدة منهما إلى الأخرى. ولذلك كانت اعترافاتنا وضحكاتنا وأحلامنا تزيد رابطة الدم الموجودة بيننا متانة وتراصا. في السادسة عشرة، فطنت إلى عزم أمي تزويجي. لم يكن أبي هناك ليدعمني، وكان زواج البنت سيخفف عن الأم عبئا ثقيلا. قضي الأمر ولم أجد بدا من أن أختار شخصا من بين الذين تقدموا لخطبتي. وقع اختياري، دونما قناعة، على مهاجر يقيم في الديار الفرنسية ويعمل تقنيا في إحدى الشركات بمدينة ليون. لم يكن اختيارا عن حب أو حتى إعجاب، بل كان ضرورة لطمأنة أمي بشأن مستقبلي. أقيمت مراسيم الخطبة في فصل الصيف الموالي حين قدم الخاطب الشاب إلى تونس لقضاء عطلته الصيفية. وحتى بعد لقائي به، لم أشعر بأي انجذاب تجاهه. كنت أعتبر هذا الزواج ضربا من الزواج الأبيض، لذلك لم أتردد في المطالبة بعدم إتمام إجراءات الاقتران قبيل الموعد المحدد لتنظيم حفل الزفاف. بعد مدة، التقيت بزوجي الأول، لأول مرة، في سن التاسعة عشرة. لقائي ببنعلي أتذكر جيدا اليوم الذي التقيت فيه زوجي الحالي. جرى كل شيء على الطريق المؤدية إلى سكرة بالعاصمة تونس ذات يوم من شهر فبراير 1984. كنت أقود سيارتي عائدة أدراجي إلى المنزل، حين تجاوزتني، فجأة، سيارة شرطة، قبل أن يطلب مني أحد راكبيها التوقف. خرج من السيارة رجل طويل القامة، أسود الشعر، طلب مني بأدب مده بوثائق السيارة، ثم قال: «تعلمين لماذا أوقفتك؟» أجبت: «نعم، أقود بسرعة إلى حد ما». التقت أعيننا لحظة. سترسم هذه النظرة الخاطفة مصيرنا وستحدد مستقبل حياتنا. أحسست وقتها بشيء يتجاوز الصدفة وعبارة «المكتوب». إنه «القدر». تنازل الشرطي عن متابعتي وقال بابتسامة ماكرة: «مضطر للاحتفاظ برخصة السياقة. عليك القدوم إلى مركز الشرطة من أجل استعادتها». بطبيعة الحال ذهبت إلى مركز الشرطة لاستعادة رخصة السياقة. تبادلنا رقمي هاتفينا بشكل عادي. ومع ذلك، لم أعرف تمام المعرفة هذا الرجل من الداخلية، الذي تعاملت معه. لم تكن الأضواء مسلطة عليه وقتها، غير أنني سمعت من قريب بأنه كان يشغل منصب مدير الأمن الوطني، وأنه معروف بجديته وحزمه. بالنسبة إلي، كان الرجل الذي طالما انتظرته. الرجل الذي بدا لي مختلفا كليا عن الآخرين. رجل فحل ولطيف في آن. رجل يمكن للحياة أن تحمل لي إذا عشت معه مفاجآت. غير أننا لم نلتق بعدها مدة ليست بالقصيرة. مرت أشهر عديدة دون أن نتقابل. فجأة جمعتنا العناية الإلهية من جديد. التقينا مجددا. بدأت أحبه دون أن أفكر في الحصول على موطئ قدم في حياته. أما هو، فقد كان يكرر لي دائما بأن علاقتنا، بالنسبة إليه، ليست مجرد علاقة عابرة: «أنا جاد ولست ألعب». أشركته في همومي، رغم أنه كان متزوجا وأبا لثلاث بنات. أسر لي، أكثر من مرة، بأنه لم يعرف يوما الحب، وأنه لا ينوي في جميع الأحوال، العيش إلى الأبد مع زوجته. كان يعتزم على كل حال تطليقها والاقتران بامرأة أخرى. قال لي ذات يوم: «شاءت الأقدار أن تكون هذه المرأة أنت، وأنْعِمْ بِها أقدارا». اعتدنا أن نلتقي في سرية تامة في منازل وبيوت بعض الأصدقاء. كنت، وقتها، أرتاد قاعة رياضية بشارع محمد الخامس بمعية صديقة طفولتي، سميرة. كان ينتظرني يوميا عند مدخل تلك القاعة. وبهذه المناسبة، أؤكد بأنني كنت على الدوام شغوفة بممارسة الرياضة، جميع أنواع الرياضة، من «الأيروبيك» إلى كرة المضرب، مرورا بكرة الطائرة، التي تفوقت فيها في مرحلة الدراسة في الثانوية، إضافة إلى كرة اليد والجمباز، اللتين مارستهما في شبابي في قاعة رياضية بحي باردو. قدمت بنعلي لأسرتي. تم ذلك في الصيف. كنا نكتري منزلا على الساحل، وقد أخبرت أمي بذلك، وأكدت لها بأنه يباشر إجراءات الطلاق من زوجته الأولى. حل ضيفا على أسرتي بضع مرات. عدا ذلك كنا نقل من خرجاتنا، وكنا نحرص كذلك على التردد على نفس الأماكن واللقاء بنفس الوجوه والمعارف. كان يكثر من الاتصال بي عبر الهاتف. وكنت أنا أستيقظ على إيقاع صوته كل صباح. كان بنعلي يحرص على قضاء أكبر وقت ممكن مع أسرته، فقد كان الخوف من فراق بناته يؤرقه. ولذلك، لزمنا الانتظار إلى حين زواج البنت الصغرى واقتران البنت البكر مرة ثانية. لم أتضايق من المكانة التي كان يحظى بها بنعلي لدى أسرته والموقع الذي تحظى به هذه الأخيرة في قلبه، بل على العكس، كان هذا الأمر يزيدني اطمئنانا. الأب المسؤول والحنون، المحب لأولاده، المراعي لظروفهم لا يمكن أن يكون على الإطلاق رجلا سيئا. كان يحدثني بتفصيل منقطع النظير عن طريقة اعتنائه ببناته، وكيف يضفر خصلات شعرهن، ويحكي لي عن إحساسه وشعوره حين يراقفهن إلى المدرسة. سأخبَر بهذا الأمر جيدا في وقت لاحق. كان يهرول مسرعا نحو بناته في كل مرة تتصل فيها إحداهن به طالبة منه خدمة. لم يكن يتأخر عن أي واحدة منهن، ولو تعلق الأمر بمجرد رغبة في استبدال مصباح كهربائي. بهذا القلب الرهيف أغرمت. فقد كان هذا الرجل، الذي يظهر قوي الحزم شديد التحفظ، إنسانيا للغاية، ويدرك حقيقة معنى الواجب. ورغم أنه كان شديد الاحترام لزوجته الأولى، فقد كان يؤكد لي بأنه لم يتزوجها عن حب. إذ تزوجها بعيد تخرجه من سانت سير بفرنسا. كان بنعلي وقتها شابا وسيما وطموحا. لم يجد الجنرال كِيفي، الذي سيصير صهره، أفضل منه عريسا لابنته نعيمة، فأقيمت مراسيم حفل الزفاف في صيف 1961. وفي سنة 1980، عين بنعلي سفيرا لتونس في بولونيا، وانتقل للعيش فيها بمعية زوجته وبناته. تم كل شيء بقرار من وسيلة، زوجة الحبيب بورقيبة، رئيس تونس في تلك الفترة. كانت وسلية كلفته بتقصي حقيقة أنباء بلغتها تحدثت عن توفر محمد صياح، وزير التجهيز وقتها، على مليشيا تابعة له، فوقف بنعلي، بصفته مديرا للأمن، على حقيقة تلك الأنباء، غير أنه رفض خيانة الوزير. وعقابا له، في سلوك يبعث على السخرية، قررت السيدة الأولى إبعاده عن البلاد. غير أن بورقيبة اضطر إلى استدعائه للعودة إلى تونس على عجل عقب اندلاع «أحداث الخبز»، التي كانت تحمل تهديدا حقيقيا لأمن البلاد. عاد بنعلي، على عجل، إلى تونس، تاركا لزوجته وبناته مهمة جمع أمتعة الأسرة ونقلها صوب تونس. كانت هذه الفترة التي استطعنا فيها أن نلتقي بانتظام. أمكننا الحديث مددا طويلة عبر الهاتف أيضا، وفي أوقات فراغي، كنت أكثر الحديث عنه لصديقتي سميرة. حكيت لها عن المشاعر والعراقيل والأفراح وكل الحواجز التي تعترض طريقنا. قلت لها إن بنعلي لا يريد تطليق زوجته لأنه يخشى أن يؤثر ذلك عليها وعلى بناته سلبا، فأكدت لي صديقتي بأنه محق في حرصه على استقرار أسرته، ثم واصلت جدالي، مؤكدة أنه يتحمل، علاوة على واجباته الأسرية، مسؤوليات سامية، وهو المسؤول عن أمن البلاد، ومن الطبيعي أن يتوفر على هامش قليل من المناورة في حياته الخاصة... وهكذا، قررت الانتظار. يوم أصبحت السيدة بنعلي لزمني انتظار ثلاث سنوات ليقدم بنعلي على تطليق زوجته وتزويج ابنته الثانية. في انتظار تحقق هذا المبتغى، بادرت إلى تقديمه إلى عدد أكبر من أقاربي. وكانت نتيجة ذلك أن برزت أصوات تعارض علاقتي به. لم يشكل أخي الأكبر عادل الاستثناء، بل تبنى صرامة الأخ الأكبر وعبر عن عدم مباركته لعلاقتي ببنعلي بدعوى أنه رجل متزوج، ولهذا السبب يتوجب على أخته أن تمتنع عن مقابلته. غير أن معارضة علاقتنا من قبل أقربائي لم تبلغ الحد الذي وصلت إليه الأصوات المعارضة لهذه العلاقة من قبل أفراد أسرة بنعلي. اعتبرت أسرة بنعلي علاقتي به كارثة. ولذلك، أجازت استعمال كل الوسائل لتوتير علاقتنا بهدف تفريقنا. وبغية وضع حد لهذا الوضع، قرر بنعلي تطليق زوجته والاقتران بي. أدركت أسرته أن ثمة امرأة اليوم في حياته. ولم يخمد ميلاد ابنتنا نار كراهيتي التي كانت تعتمل في قلوب بعض أقارب بنعلي. وبأمر من بعض المحيطين بزوجي، ولا سيما صديقه كمال لطايف، نشر جواسيس بمحيط منزلي من أجل مراقبتي على مدار الساعة. كانوا يسجلون حركاتي وسكناتي ويبعثون بشأنها تقارير إلى مشغليهم. كان يكفي أن أخرج إلى شرفة المنزل ليهرولوا صوب بنعلي ويقسموا له بأغلظ الأيمان بأنني كنت أعاكس الرجال وأغمزهم. ذات يوم، لمحوا سيارة أخي مركونة أمام منزلي، فخُيل إليهم أن لي عشيقا. كان بنعلي يلمح إلي بذلك قبل أن يتجاوز عتبة الباب ويدلف إلى البيت: «قضيت يومك في الشرفة، حتى إنك كنت ترتدين منامة خضراء»، أو يقول: «كنت اليوم في الشاطئ وكان جزء كبير من رجليك مكشوفا». أعترف بأنهم كانوا ينجحون، بهذه النوعية من الأخبار، في إغضاب زوجي وإبعاده عني أياما عديدة. كان الحبيب عمار، وزير الداخلية وقتها، الوحيد الذي ينبري للدفاع عني. أبدى تعاطفا كبيرا معي منذ اليوم الذي رآني فيه حبلى، ومنذ تلك اللحظة ما فتئ يسألني عن أحوال وأخبار ابنتي نسرين. وهذا ما جر عليه غضب وعداوة الطرف المضاد، الذي حاول وضع حد لمسيرته المهنية، وحال دون توليه المسؤوليات العليا التي استحقها. كان مسلسلا حقيقيا هدفه زرع بذرة الخلاف بيني وبين بنعلي. بعد ذلك، كالوا الاتهامات لأسرتي من أجل دفع بنعلي نحو الانفصال عني. إذ زعموا بأن أخي دهس بسيارته راجلا فقتله، وادعوا بأن أختي تزعج جيرانها بحفلاتها الموسيقية الساهرة التي تقيمها في بيتها على إيقاعات «الدربوكة»، ثم قالوا إن ابن أختي تلقى دروسا في رياضة كرة المضرب دون أن يؤدي واجبات التسجيل ومستحقات التدريب. كانت الصلاة سلاحي الوحيد. لقد كنت أواظب على إقامتها منذ شبابي. إذ كنت أحرص على تخصيص غرفة للصلاة خاصة بالأسرة في منزلينا في سوسة وسيدي بوسعيد. غير أن معارضي لا يهتفون بتفصيل من هذا القبيل، لأنهم منشغلون في الوقت الراهن بافتراء الأخبار عني ووصفي بأقدح النعوت واتهامي بشتى أنواع الانحراف. بعد ذلك، انتقلوا إلى مساومتي. إذ وعدوني بمبالغ مالية طائلة أو مناصب أو عقارات، حسب رغبتي، مقابل التخلي عن بنعلي وطلب الطلاق منه. بلغت الدناءة بكمال لطايف حدا لم يجد معه أدنى عار أو حرج في أن يقترح على زوجي السابق «الاقتران بي مجددا» مقابل الحصول على أراض فلاحية وأموال هامة. اقترحوا على بنعلي أيضا أن يحرمني من ابنتي، ولما علمت بذلك قلت: «سأفقأ أعين كل من يقترب من ابنتي أو يسعى لإبعادها عني». حاولوا الإيقاع بي عبر الهاتف، ولم ينجحوا. لم يفتروا عن اقتفاء أثري، ولو أنهم وجدا شيئا معيبا في سلوكي لبادروا إلى نشره في الساعة الموالية. كنت أعلم أن حياتي مهددة. ذات يوم، فوجئت، بعيد مغادرتي مصحة «ماجينتا»، قرب ساحة باستور، حاملة ابنتي نسرين بين ذراعي، بسيارة تسير نحوي بسرعة جنونية، وكاد سائقها يدهسنا ويقتلنا لولا أن السيارة أخطأتنا بسنتمترات قليلة. عرفت هوية السائق في وقت لاحق. وإني أسامحه، اليوم، وأسقط عنه مسؤولية ذلك الحادث. لجأت إلى سيارة أجرة وبقيت بضع ساعات أطوف في المدينة دون أن أعلم كيف أتصرف وأي وجهة أقصد. عشت، بعد ذلك، في رعب دائم مخافة أن أقتل. تلقى بنعلي نبأ ما حدث بذهول وبالكاد صدقني وأنا أحكي أمامه تفاصيل ما جرى. كان المحيطون ببنعلي يريدونني خارج حياة هذا الرجل مهما يكن الثمن. هذا الرجل الذي سيصير رئيس الدولة في 7 نونبر 1987.