من الصعب أن يتكهن أي إنسان، مهما بلغ من الحكمة والخبرة، بالصورة التي ستنتهي عليها الأوضاع في سورية، ولكن ما يمكن التكهن به هو أن الصراع المسلح الدائر حاليا على الأرض سيطول، وأن النظام السوري لن يسقط خلال أيام، رغم الانشقاقات التي تعرض لها وأحدثت هزة نفسية وإعلامية، صعّدت آمال الكثيرين في هذا المضمار. الذين تدخلوا في هذه الأزمة، خاصة أولئك الذين دفعوا باتجاه عسكرة الثورة السورية ودعموا المعارضين بالمال والسلاح، لم يتدخلوا من أجل إحلال الديمقراطية وحقوق الإنسان وتخليص الشعب من نظام ديكتاتوري دموي سلبه كرامته وحرياته، كما أنهم لم يتوقعوا أن تستمر، أي الأزمة، لأكثر من أسابيع أو أشهر معدودة، وهنا جاء الخطر الأكبر والكارثي في الحسابات. النظام السوري صمد طوال هذه المدة لأن معظم الانشقاقات التي وقعت في صفوفه كانت إعلامية صرفة، وفي إطار حرب نفسية، ولم تحدث أثرا جديا يضعف النظام ويقوّض أركانه. أسماء كبيرة.. نعم.. ولكنها دون جذور حقيقية أو لاعبة أساسية في دائرة صنع القرار. صحيح أن أربع شخصيات أمنية كبرى تشكل عصب خلية إدارة الأزمة، من بينهم وزير الدفاع ونائبه آصف شوكت صهر الرئيس، تعرضوا للاغتيال، ولكن الصحيح أيضا أن هذه العملية ما زالت تتسم بالغموض، ولم ترشح أي تفاصيل عنها، ولم تعلن أي جهة المسؤولية عن تنفيذها، ولم نتعرف حتى هذه اللحظة على العنصر أو العناصر التي شاركت فيها، وما هو مصيرها، فهل هي عملية انتحارية أم عملية زرع متفجرات في القاعة، وكيف تمت؟ جميع السيناريوهات واردة، ولكن لا يجب استبعاد السيناريو الأهم وهو احتمال قيام النظام نفسه، أو أبرز أجنحته، بتصفية هؤلاء بضربة استباقية لشكوك في ولائهم أو لتسرّب معلومات من استخبارات خارجية مضادة (روسية مثلا) عن وجود اتصالات غربية بهم لقلب النظام؟ كان لافتا أنه بعد تصفية هؤلاء ازداد الجيش السوري شراسة، ونجح في السيطرة على مدينة دمشق، بعد أن كادت تسقط في أيدي الجيش السوري الحر وأنصاره، واستعادة الجزء الأكبر من حي صلاح الدين في حلب، إن لم يكن كله، الأمر الذي يذكرنا بتقدم مماثل لقوات المعارضة الليبية بعد اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس، قائدها السابق، وتوالي سقوط المدن في أيديها، ابتداء من مصراته وانتهاء بطرابلس وسرت وبني الوليد. الكفة بدأت ترجح لصالح النظام السوري وحلفائه، ليس لضعف المعارضة وقواتها، وإنما لتردد حلفائها خوفا من الخسارة أولا، وللمواقف شبه الانتحارية الداعمة للنظام من قبل الروس والإيرانيين والصينيين، واستخدامهم كل ما في جعبتهم من أوراق قوة للحيلولة دون سقوط الرئيس الأسد، حتى الآن على الأقل. الحماس التركي للمعارضة السورية بدأ يخفت، وتهديدات السيد رجب طيب أردوغان باتت أخف لهجة، إن لم تكن معدومة في الأيام الأخيرة، بعد ازدياد عمليات حزب العمال الكردستاني، واستخدامه لخمس محافظات شمال سورية كقاعدة لشنها، وتصاعد الأصوات التركية المعارضة لتورط تركيا في الأزمة السورية، وتسرّب أنباء عن بوادر صراع طائفي بين الأقلية العلوية مدعومة ببعض الفصائل الكردية، والأغلبية السنية. الإدارة الأمريكية، الحاضن الأبرز للمعارضة السورية، بدت مرتبكة في سياستها تجاه الملف السوري، فهي تريد دعم المعارضة السورية للتسريع بإسقاط النظام، ولكنها تخشى في الوقت نفسه أن تصل الأسلحة إلى التنظيمات الإسلامية المتشددة، وتنظيم القاعدة على وجه الخصوص الذي بات من الصعب إنكار وجوده على الأراضي السورية. فعندما يتحدث المقاتلون في صفوف المعارضة في حلب، المعركة الأهم، عن نقص حاد في الذخيرة، فهذا يعني وبكل بساطة أن فرص قوات الجيش العربي السوري النظامي في استعادة المدينة باتت أكبر، والمسألة مسألة وقت لا أكثر. من الواضح، ومن خلال بعض التقارير الغربية، أن خطة «أصدقاء الشعب السوري» كانت تتلخص في الإطاحة بالنظام والاستيلاء على ترسانته من الأسلحة النووية، قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، للتفرغ لإنجاز هدفين أساسيين، الأول: هو إشعال ثورة شعبية في الجزائر تطيح بالنظام الحالي؛ والثاني البدء في تنفيذ الاتفاق الإسرائيلي-الأمريكي بضرب المنشآت النووية الإيرانية، بعد تحييد العامل السوري، وعزل حزب الله في لبنان ومحاصرته وربما تصفيته عسكريا وأمنيا وسياسيا، من خلال هجوم موسع. فليس من قبيل الصدفة أن يقوم السيد سعيد جليلي، ممثل السيد علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، بزيارة خاطفة لكل من بيروت حيث التقى السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، ودمشق للاجتماع بالرئيس السوري بشار الأسد، وتأكيد أن إيران «لن تسمح بكسر محور المقاومة الذي تشكل سورية ضلعا أساسيا فيه». الحرب الجارية حاليا في سورية هي حرب طائفية، والصراع الدائر فيها هو صراع على السلطة من المتوقع أن يستمر لأشهر، وربما سنوات حتى يستطيع أحد طرفيه حسم الأمور عسكريا على الأرض لصالحه، ويسلّم الطرف الآخر في المقابل بالهزيمة، ويدفع ثمن هزيمته على غرار ما حدث في ليبيا. الحلول السلمية جرى قبرها بعد انهيار مهمة كوفي عنان واستقالة صاحبها يأسا وقرفا، وعدم تعيين بديل حتى الآن، في ظل صراع شرس على النفوذ بين القوى العظمى، تطور إلى حرب بالوكالة على الأرض. الروس والصينيون الذين انهزموا في العراق وليبيا، وقبلها في أفغانستان، لا يريدون أن ينهزموا في سورية، أو بالأحرى يريدون أن ينتقموا للخديعة الكبرى التي تعرضوا لها في هذه الدول على يد الأمريكان وحلفائهم الغربيين والعرب النفطيين، وهذا ما يفسر استئسادهم في الدفاع عن الأسد ونظامه. العاهل الأردني عبد الله الثاني يمكن أن نوصفه بكونه الترمومتر أو العدسة الأصدق في رؤية ملامح المخططات التي تطبخ للمنطقة، فقد كان أول من حذر من الهلال الشيعي وضرورة إقامة هلال سني في مقابله، وهذه النبوءة التي صدرت قبل ست سنوات تتجسد على الأرض، كما أنه كان أول من كشف عن وجود ستة آلاف مقاتل يتبعون لتنظيم القاعدة، يعملون على الأراضي السورية. يوم الأربعاء، فاجأنا العاهل الأردني بالتحذير من لجوء الرئيس بشار الأسد وأنصاره إلى المنطقة العلوية وإقامة كيان طائفي علوي فيها، وذلك أثناء حديث إلى محطة «سي.إن.إن» الأمريكية الشهيرة، وعلينا أخذ هذه التحذيرات بجدية مطلقة، فالرجل لا ينطق عن هوى، وبلاده استضافت قبل شهرين مناورات «الأسد المتأهب» العسكرية التي شاركت فيها 19 دولة بقيادة أمريكا، تحت عنوان التدخل عسكريا ل«تأمين» مخزون الأسلحة الكيماوية السورية، وهي أيضا التي باتت الملاذ الآمن للمنشقين السياسيين، وربما العسكريين السوريين. التحذير من كيان علوي هو أول وأقوى مؤشر على مدى جدية احتمال تقسيم أو تفتيت سورية على أسس طائفية وعرقية، وهذا يتناقض كليا مع أهداف الثورة الشعبية السورية في إقامة دولة ديمقراطية على جميع أنحاء سورية، تتعايش فيها كل الطوائف والأديان والأعراق على قدم المساواة. سورية تتجه بسرعة نحو سيناريو التفتيت المرعب، وهو سيناريو، إذا ما نجح، سيصل إلى الدول التي تستعجل سقوط النظام السوري حتما، فليست هناك أي دولة محصنة، بما في ذلك الأردن وتركيا ودول الخليج والسعودية منها خصوصا، فإذا قامت دولة علوية وأخرى سنية وثالثة كردية ورابعة درزية في سورية، فتوقعوا قيام دولة الحجاز ودولة نجد ودولة عسير ودولة الاحساء، وربما أيضا دولة الأقباط في مصر.. ولا ننسى لبنان في هذه العجالة أيضا. نظرية أحجار الدومينو التفتيتية قد تكون العنوان الأبرز للمرحلة المقبلة.