«تميز العهد الجديد بمقاربة الإصلاح بحكمة وجدية، وهو الأمر الذي ترجمته لحظات حاسمة ومفصلية في مسار النهوض بحقوق الإنسان في المغرب، بدءا بالإصلاحات التشريعية والمؤسساتية، مرورا بولاية هيئة الإنصاف والمصالحة ومسلسل تنفيذ توصايتها، وانتهاء بالدستور الجديد للمملكة»، يقول محمد الصبار، الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، في تصريح ل«المساء». لقد تميزت اللحظة التي تسلّم فيها الملك محمد السادس الحكم باجتياز المغرب مرحلة دقيقة في تاريخه.. تميزت بدخوله في مرحلة الانتقال الديمقراطي وانخراط معارضة الأمس في عملية تدبير الشأن العام.. كانت أولى القرارات «المهمة» الدخول في عملية تصفية إرث ثقيل من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ابتدأت بإبعاد ادريس البصري، كأبرز وجوه المرحلة السابقة، والبدء في تصفية الأجواء وتأسيس «هيأة الإنصاف والمصالحة»، بهدف إجلاء الحقيقة وإنصاف ضحايا ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومصالحة الذات المغربية في اتجاه الطيّ النهائي لملف الانتهاكات. اليوم، وبعد مرور 13 سنة من حكم الملك محمد السادس، شهد المغرب في مجال حقوق الإنسان تقدما في مسار تكريس حقوق الأفراد والجماعات والقطع مع ممارسات الماضي، بشهادة المنتظم الدولي. بيد أن التطور الملموس الذي عرفه المغرب في مجال حقوق الإنسان لم يرقَ إلى مستوى تطلعات الحركة الحقوقية، التي طالما نبّهت إلى وقوع بعض التجاوزات، خاصة خلال أحداث 2003 الإرهابية، التي تعرضت فيها الدولة لانتقادات شديدة. وقد أعاد ملف «السلفية الجهادية»، في شقه الحقوقي، الجدلَ حول مدى احترام الدولة حقوقَ الإنسان، سواء عندما تعلق الأمر ببعض التجاوزات الذي وقعت في عملية التعاطي مع ملف الإرهاب أو تلك المتعلقة بالإضرابات المتكررة عن الطعام التي يخوضها المعتقلون «الإسلاميون» في السجن. وقد كان بديهيا أن تجد مطالب الحركة الحقوقية ضالّتَها في دستور 2011، الذي وصفه البعض ب«دستور حقوق الإنسان»، والذي تضمّن بابا خاصا بحقوق الإنسان من 21 فصلا، عززت المكانة الدستورية لمجموعة من الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والتنموية. وأكد الملك محمد السادس، في خطاب 17 يونيو 2011، أنه «تمت دسترة كافة حقوق الإنسان، كما هو متعارَف عليها عالميا، بكل آليات حمايتها وضمان ممارستها، وهو ما سيجعل من الدستور المغربي دستورا لحقوق الإنسان وميثاقا لحقوق وواجبات المواطن».. وهو الخطاب الذي أشار، أيضا، إلى أن الدستور يُكرّس كافة حقوق الإنسان، بما فيها قرينة البراءة وضمان شروط المحاكمة العادلة وتجريم التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي وكل أشكال التمييز والممارسات المهينة للكرامة الإنسانية.. وكذا ضمان حرية التعبير والرأي والحق في الولوج إلى المعلومات وحق تقديم العرائض، وفق ضوابط يحددها قانون تنظيمي. لكن أبرز مكتسبات الحركة الحقوقية المغربية تمثلت في دسترة مجموعة من توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة، التي طالما نادت الفعاليات الحقوقية بضرورة دسترتها باعتبارها الضمانة الأساسية للقطع مع ممارسات الماضي وترسيخ مبادئ الحكامة الأمنية وربط المسؤولية بالمحاسبة، عوض الإفلات من العقاب. وقد شكّلت تجربة الإنصاف والمصالحة خطوة مهمة في اتجاه تحقيق العدالة الانتقالية في بلادنا، مما يسمح بتحقيق انتقال ديمقراطي سليم ومصالحة الذات المغربية وجبر ضرر ضحايا الانتهاكات ورد الاعتبار إليهم والطي النهائي لمرحلة من تاريخ المغرب، وهو ما أكده محمد الصبار، الذي يعتبر أن «مسلسل العدالة الانتقالية، عموما، وعمل هيئة الإنصاف والمصالحة بشكل خاص، مكّن من كشف الحقيقة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المُرتكَبة في الماضي والتعويض المادي والمعنوي للضحايا، فرادى وجماعات، وإصدار توصيات للإصلاحات القانونية والمؤسساتية لتجنب تكرار ما جرى من انتهاكات». وأكد الصبار أن «هذا المسار سمح بالانتقال من مرحلة سادت فيها الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بشكل ممنهج، وفي ظل الإفلات التام من العقاب، إلى مرحلة يسود فيها تجريم صريح لكل أشكال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ووجود إطار قانوني ومؤسساتي يسمح بالتصدي لها». لكن مستوى الرضى على مآل توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة يبقى متفاوتا، حيث تعتبر خديجة الرياضي، رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أن «هيأة الإنصاف والمصالحة شكّلت إحدى محطات نتائج النضال الحقوقي المغربي، والتوصيات التي جاءت بها كلها مهمة، لكن الإشكال هو أن أغلبها لم يُنفَّذ بعد أكثر من خمس سنوات من التزام الدولة بتنفيذها». ورسمت الرياضي صورة قاتمة عن وضع حقوق الإنسان اليوم عندما قالت إنه «في بداية التسعينيات، تراجعت الدولة عن انتهاكات حقوق الإنسان، التي قلّت بشكل واضح، وهو ما تجلى في إطلاق سراح عدد من المعتقلين والانفتاح على مستوى الحريات، حيث كانت هناك أجواء متقدمة، فالأوضاع في تلك فترة كانت أفضل من الوضع القائم اليوم». يجد موقف الرياضي من بعض التجاوزات التي تحدث اليوم صداه في تقارير بعض المنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان، والتي توجه انتقادات للدولة، خاصة في تعاطيها مع الاحتجاج السلمي، سواء تعلق الأمر باحتجاجات حركة 20 فبراير أو التعاطي مع المظاهرات الاحتجاجية للمعطلين. وقد جاء في التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية أن «قوات الأمن استخدمت القوة المفرطة ضد المتظاهرين واستمر التعذيب وغيره من صنوف المعاملة السيئة، وتم تقديم عدد من المتظاهرين إلى المحاكمة وإصدار أحكام بالسجن في حقهم». وتشير الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في تقريرها السنوي حول وضعية حقوق الإنسان في المغرب، إلى أن «الحق في التظاهر السلمي يُنتهَك عبر التدخلات العنيفة للقوات العمومية والاستعمال المفرط للقوة وخارج نطاق القانون وفك الاعتصامات السلمية بالقوة في العديد من المدن، سواء المنظمة من طرف المعطلين أو السكان المطالبين بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية أو ضد الاستيلاء على أراضيهم، أو العمال والعاملات المحتجين ضد انتهاك حقوقهم، أو حركة النساء السلاليات المطالبات بالحق في الأرض». ورغم التقدم الحاصل في المجال الحقوقي، خاصة في مسألة تعزيز مجموعة من الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والتنموية في الدستور، فإن هناك إجماعا على أنّ المرحلة تقتضي العمل على تنزيل المقتضيات الدستورية على أرض الواقع وضمان ممارستها بشكل يؤسس لمرحلة جديدة في مستوى ما جاء به الدستور الجديد. وإذا كانت الدولة قد قطعت مع انتهاكات حقوق الإنسان في شكلها الجسيم والممنهج والخارج عن أي محاسبة، فإنها اليوم أمام تحدّي التصدي لكل ما يحدث من انتهاكات وتجاوزات ارتكازا على الضمانات الدستورية والقانونية والمؤسساتية التي سمح هذا التراكم التاريخي بإرسائها، حسب محمد الصبار، الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان.