حين وصل كتاب «العقد الفريد» إلى الصاحب بن عباد، وكان فريدا في بابه، قال عنه «هذه بضاعتنا ردت إلينا» وانتقص من قيمة العقد، لكن شهرة صاحبه ابن عبد ربه فاقت شهرة «الصاحب»، وحين رحل الغزال إلى المشرق أنشد الناس قصيدته «قليل هجوع العين إلا تعلة» ونسبها إلى أبي نواس فذهبوا في إطرائه كل مذهب، ولما علموا أنها للغزال انفضوا من حوله، وعاد الشريف الإدريسي بخفي حنين من المشرق حزينا كاسف البال وكان يظن أنه سيلقى هناك من الاحتفاء ما يذهب آلام غربته، كل تلك الصور تختزل حقيقة نظرة المشارقة لإخوانهم المغاربة وتعبر عما يعانيه الأدب المغربي هنالك من الإعراض مهما بلغت جودته، وقد بذل المقري وسعه في تقديم الثقافة المغربية لإخوانه المشارقة في أبهى حللها، ولعل هذا من المميزات التي تنضاف إلى بحر حسنات المقري، ولعله أفلح أكثر من غيره في تمثيل أدب قومه في الديار المشرقية فكان سفير الأدب المغربي بلا منازع، على أن مآثره ببلاده لا تقل أهمية عما خلفه في غربته، لكن عناية أهل الأدب والمهتمين بالتاريخ بكتابه «نفح الطيب» جعل اسمه لا يذكر إلا مقرونا بهذا المؤلف الجليل الذي رأى النور في الشرق وإن كانت غاية المقري من كتابه هذا أن يعرف بلسان الدين بن الخطيب نموذجه الأعلى في الشعر والأدب، ونسيبه في الغربة والمعاناة من تقلبات الدهر فقد قدم صورة هي آية الروعة ومنتهى رقي الذوق عن أدب المغرب. ولد أبو العباس أحمد بن محمد المقري بتلمسان سنة 992ه وجده هو أبو عبد الله محمد المقري شيخ شيوخ عصره، تتلمذ على يده ابن خلدون وابن الخطيب وكان مقربا من أبي عنان المريني، لزم المقري عمه الشيخ سعيد فكان أبرز أساتذته بتلمسان وقد حببه عمه هذا في الرحلة فانتقل إلى فاس سنة 1009ه ثم زارها أواخر عام 1010 ه ثم عاود الرجوع إليها سنة 1013ه حيث سيقضي بها أربعة عشر عاما إلى أن غادرها نهائيا إلى المشرق عام 1027ه. ومن شيوخ المقري العلامة أحمد المنجور، وأحمد بابا التنبكتي صاحب نيل الابتهاج، ومحمد بن قاسم القصار وغيرهم من علماء فاسومراكش. كان المقري قارئا نهما ينكب على العلوم الشرعية انكبابه على الشعر والأدب والتاريخ، وكان حريصا على حفظ أمهات كتب الدين والحديث حتى صار موسوعة زمنه، لا يرى في كل فن من فنون عصره إلا متقنا، وقد أعجب به الفقيه إبراهيم بن محمد الأيسي واصطحبه إلى مراكش وقدمه إلى المنصور الذهبي الذي كان بلاطه مزدحما بخيرة علماء ونوابغ المغرب، وعلى رأسهم عبد العزيز الفشتالي الذي مافتئ المقري يثني على أدبه في نفح الطيب، وكان الفشتالي من الأعلام الذين محضوا المقري خالص ودهم ومراسلاته شاهدة على ذلك، وظل طيف الفشتالي حاضرا في ذهن المقري في غربته فلم يكن من رجال البلاط الذين ينقمون على غيرهم مزية العلم وموهبة الأدب، ولعل ما آنسه المقري من الأجواء المشجعة في بلاط الذهبي على العطاء العلمي دفعه ليدلي بدلوه ويفصح عن موهبته فألف كتاب «روضة الآس» وكان ينوي إهداءه للمنصور إلا أن هذا الأخير عاجلته المنية سنة 1012ه فرحل المقري إلى فاس بعدما اضطربت أحوال المغرب وتصارع أبناء المنصور فيما بينهم فآثر جوار أبي المعالي زيدان بن المنصور، وكان أبو المعالي عالما فقيها يملك مكتبة خاصة حوت من فرائد المؤلفات ونفائس المصنفات ما جعل المقري ينكب عليها زمنا غير هين يقيد نوادرها ويطالع فوائدها حتى وعى منها في صدره الشيء الكثير، إذ كان صاحب حافظة قوية تسعفه حين تعوزه المراجع، ويقول المقري عن قوة حفظه: «وكنت في حال الصغر أحفظ كثيرا بالنسبة إلى أقراني، فحدثني مولاي العم سعيد بن أحمد المقري أن بعض شيوخه من أهل تلمسان كان يطالع الكراس الكبير بسرعة، فيحفظ ما فيه من وقته من غير تأمل، ولا بطء البتة فانكسرت نفسي». صار المقري بفاس واسطة عقد علمائها يلي فيها مهام الخطابة والإمامة والفتيا غير أن تغلب الشيخ المأمون بمساعدة الإسبان واحتلالهم للعرائش، وما كان بعد ذلك من استفتاء المأمون للعلماء حول جواز تسليم العرائش، نظير رجوع أبنائه الذين خلفهم رهائن بإسبانيا دفع المقري للتواري عن الأنظار والخمول، خاصة وأن «الشيخ» طلب أستاذ المقري القصار ليعذبه غير آبه بشيخوخته، ولبث المقري بعد ذلك زمنا يتحين الفرص لمغادرة المغرب بعد أن ساءت أحواله إلى أن كانت سنة 1027ه التي غادر فيها إلى مكة معتمرا ولبث بها إلى أن أدى فريضة الحج، وفي رحلته زار دمشق وبيت المقدس ثم حط عصا التسيار بمصر وهناك تزوج من امرأة من عائلة السادة الوفائية رزق منها بنتا، ولم يدم زواجه طويلا ولم يوفق فيه إلى غايته فطلقها فكان ذلك من أسباب تعاسته، إذ هجره عامة الناس وخاصتهم حتى لم يعد يحادثه أحد، ولقد لقي المقري من المصريين أذى كثيرا يقول الخفاجي: «إنه وجد بمصر الحسد والنفاق، وتجارة الآداب ليس لها بسوقها نفاق». لم تترك الإقامة بمصر في نفس المقري صدى طيبا ولم ترق صلته بالناس إلى ما كانت تصبو إليه نفسه، ورغم طول إقامته بها لم يحدث أن جرى بينه وبين أدبائها أو علمائها مطارحة أو نقاش مما يحدث عادة بين أهل العلم، يقول محمد عبد الغني حسن في كتابه «المقري صاحب نفح الطيب»: «على الرغم من السنوات الطويلة الأربع عشرة التي قضاها أبو العباس أحمد المقري في مصر، لم نعثر فيها لدينا من مصادر وكتب في السير وطبقات الرجال في القرن الحادي عشر على اسم عالم أو أديب مصري انعقدت بينه وبين المقري صلة، أو دارت بينه وبينه مطارحة أو مفاكهة... وقد كان المقري رجلا ألوفا جميل العشرة سمح الخلق». وليس أفضل في التعبير عما قاساه في مصر من الإهمال من قوله يصف ما انتابه من إحباط بأرضها : قد دخلها قبلنا ابن الحاجب وأنشد فيها قوله : يا أهل مصر وجدت أيديكم في بذلها بالسخاء منقبضة لما عدمت القرى بأرضكم أكلت كتبي كأنني أرضة ثم أنشد لنفسه أبياتا مما جاء فيها: تركت رسوم عزي في بلادي وصرت بمصر منسي الرسوم عندما زار المقري دمشق طلب منه بعض علمائها، وقد أعجبوا بأحاديثه عن ابن الخطيب أن يكتب سيرة لسان الدين، فألف كتاب: «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب وجعله قسمين أحدهما للحديث عن بيئة الأندلس الأدبية والسياسية، وثانيهما تناول فيه حياة ابن الخطيب، وقد بذل فيه المقري وسعه في التعريف بأعلام المغرب الذين حلوا بالمشرق وصار «النفح» أعظم المراجع في تاريخ الأندلس بما حواه من أخبار هذا القطر، الذي احتك المقري بأبناء النازحين عنه عن كثب وتلقف روايات آبائهم وأجدادهم عن أرض الفردوس المفقود. ومن مزايا النفح أيضا أنه تحدث عن المشارقة الذين حلوا بالمغرب وترجم لهم ولم يترك موضعا إلا نوه فيه بفضل المغاربة وعلمهم، يقول محمد عبد الغني حسن : «كان متعصبا لمغربيته يحاول إظهارها في كل مناسبة» . لبث المقري في غربته ما يقارب عقدا ونصف العقد من الزمن، وما انفك الحنين إلى وطنه يعاوده الحين بعد الحين وقد عبر عنه في شعره غير ما مرة ومن ذلك قوله : ما من يذكرني حديث أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب وقوله : أحن إذا خلوت إلى زمان تقضى لي بأفنية الربوع وأذكر طيب أيام تولت لنا فتفيض من أسف دموعي لم يكتب للمقري أن يعود إلى وطنه فقد وافته المنية عام 1041ه وقيل إنه مات مسموما، وقد دفن بمقبرة المجاورين بالقاهرة . خلف المقري ما ينيف عن ثلاثين كتابا في مختلف العلوم والفنون منها «روضة الآس العاطرة الأنفاس»، و«أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض» وإضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة « و«الغث والسمين والرث والثمين» لكنها لم تبلغ شهرة «نفح الطيب» الذي لا يجاري فيه المقري في نفسه النثري وجميل سجعه، غير ملهمه ومثله الأعلى «لسان الدين بن الخطيب» نفسه.