الشعوب الحرّة هي التي تعرف كيف تحمي استقلالها من عبث الدخلاء، وتصون سيادتها من الطاعنين في كرامتها؛ فليس لدول محرومة من حريات شعوبها قدرة على الصمود في هذا العصر بفعل أنظمتها السياسية الحاكمة وحدها. هذه الحقيقة لم تثبتها ثقافة نظرية أو مجردة، ولكنها كانت برهانَ القوة والمنعة للأمم الحديثة؛ فما يعنيه الشعب الحر هو أن تكون أقدار الناس ملكا لأصحابها، ليست تابعة للآخرين، مهما كان هؤلاء من سادة الأمر الواقع أو من أدواتهم. فالعلّة المركزية التي تشكو منها النهضة الثانية، أنها ربما أتت بشيء من الاستقلال السياسي للدولة العربية الناشئة، لكنها منحت بعض حرية التصرف لحكّامها مقابل انسلاب أبسط شروط الحياة الكريمة لجماهيرها. هنالك أمم قد تعيش عصورا طويلة دون أن يشعر بعض أفرادها في لحظة معينة بالحاجة إلى ممارسة الحريات العادية، بدءا مثلا من مواقف الاعتراض إزاء شؤون عامة، أو أن يَجْهر البعض بأصوات النقد والدفع ضد سلطات قائمة. ولعل معظم شعوب العرب كابدوا أمثال هذه التجارب العقيمة، فليس ثمة شعب عربي واحد قد فاز بأهم حرياته الفردية، ذلك همٌّ أو وهمٌ سحري لم تتشبث بأفكاره أو شعاراته حركات سياسية كبرى دون سواها؛ كأنما طَلبُ الحريات ترفٌ ثانوي لا تعدو وراءه سوى نخبة قليلة، ولا تلبث أن تنساه أو تهمله، تحت وطأة أهداف أخرى أكثر واقعية وجدوى: هل تحتاج ثقافة الحرية إلى مستوى معين من النضج الفكري الاجتماعي يسمح بتفتح شخصية الفرد وتطلعه إلى تنمية ذاته اعتمادا على إمكانياته الخاصة التي تميزه عن غيره؟ ذلك سؤال لا بد منه في ما يتعلق بنماذج الحضارات الإنسانية واختلافاتها النوعية في ما بينها؛ فالمشروع الثقافي الغربي يكاد يحتكر لذاته تراث الحريات، يجعله محور تاريخه الذاتي، فلا يقيس عصرا من عصوره إلا بنسبة الحريات الممنوحة لأهله. وهي ليست ممنوحة بقدر ما هي مكتسبة بفضل درجة التحضر التي يبلغها تطور المجتمع. هناك علاقة جدلية بين التحضر والتحرر، بمعنى أن يكون كل من الحدين علة للآخر ومعلولا به في وقت واحد. ليس أحدهما سابقا للآخر أو متخلّفا عنه بقدر ما هما موجودان معا، ويكاد كل واحد منهما يكون الآخرَ، فماذا يعني التحرر بالنسبة إلى جمهور محروم من أقل إمكانياته الطبيعية أو أنه بدون أية إمكانيات إطلاقا سوى وجوده الخام. فما هو فاعل بهذا اللاوجود أصلا؛ إذ ليست الحرية شعارا للتغني باسمها، إنها إرادة اختيار ما بين ممكنات تغصّ بها ذاتية عامرة بمطامحها الإنسانية؛ فبدون هذه الإرادة لا يمكن الكشفُ عن الإمكانيات الكامنة، وبدون توفر هذه الإمكانيات لن يكون للإرادة ثمة موضوع للعقل أو للتغيير. وهكذا يبدو التحضّر هو الكفيل بتأمين شروط الوعي بالذات القادرة الفاعلة، إنه يقدم إلى الوعي وسائل تحققه، إنه يضع كل جيل صاعد أمام أفق عريض من نماذج الأفكار والسلوك والأدوار العامة التي يختار منها كل فرد ما يتمناه لكينونته ومستقبله، وبما يتفاعل مع ميوله ومزاجه الشخصي. ذلك هو مجتمع الانفتاح المضاد تماما لمجتمع الاستبداد، ونحن نزعم أن عرب العصر لم يعرفوا بعد ما هو مجتمع الانفتاح. قد يتداول بعضُ مثقفيه أوصافَه وخصائصه، لكن حياتهم اليومية تظل أفقر من أن تنتمي إلى انطلاقة الحرية العادية من دون مآزق وسدود مصطنعة تعرقل مسيرتهم؛ ليست هناك تقاليد ما لمفهوم استقلالية الفرد الإنساني، قلما تعلّمت الأجيالُ الناشئة كيف يكون الفرد منهم سيّد نفسه؛ فأخلاق التبعيات من كل صنف تربوي وديني وثقافي، تكبّل سلفا بداهة الشاب الجديد بكل القواعد والأوامر السابقة على قراره وإرادته. فليس للفتى العربي ما يفكر أو يحلم به على طريقته الخاصة التي يجهلها مقدما؛ بينما يستولي الاستبداد على قمة الهرم الاجتماعي، يوزع الأعمال والأهداف كأنها هبات علوية من عنده؛ فالمجتمع التبعي لا يمتلك ذاته أصلا، كيما يقبل أو يرفض من يغتصب سيادته. الديكتاتورية السياسية في عالمنا العربي والإسلامي ليست صناعة أجنبية خالصة، إنها نتاج أهلوي وطني بالدرجة الأولى، ذلك أن التسلّط هو مرض شعبوي شائع، قلما تتحرر منه بيئة مجتمعية مصرّة على استلاب أفرادها من مسراتهم الصغيرة، إنهم مأخوذون تحت سلطانها بأحكام كلية تمسح لونياتها الذاتية، تجعلهم أقرب إلى أشباح أنفسهم بدون أنفسهم عينها؛ فالكبت الجماعي يفجر نوعا من فرديات مفرطة في غلوائها ما إن تسنح لها فرصةُ التمكن من مركزِ قوة، كيف إن كان هذا المركز يمثل سلطة سياسية حاكمة! هذه الفئويات الضالة من عبيد التسلّط الأعمى التي حكمت معظم دول النهضة، كأنما تعوّض عن كبت المجتمع كله بالإفراط في كل شيء في الغدر والنهب والتهتك والانحلال بلا حدود، فالمستبدون هؤلاء يبيحون لأنفسهم كل حريات الانفلات من كل قيد أو رقابة، ما يمنعون أقلَّه بالنسبة إلى أحد من شعوبهم. ما يمكن قوله هو أن عصر النهضة الاستقلالية لم يخسر فحسب رهانات الحريات العامة المفترض تحصيلُها من تراكمات التطور الحضاري الذي يتيحه الاستقلال السياسي، بل كأن جهود مئات من ملايين الناس ذهبت عبثا وهدرا طيلة عقود من فوضى التخبط السلطوي الذي صاحب بناء الدولة الحديثة، فليس ثمة شعب عربي يحس بأن له رأيا في ما تكون عليه دولته، فالشعوب في واد ودولها في واد آخر. الناس في بلادنا محرومون من الشعور بما هو عام، هم يحيون أية حياة صُنعت لهم من دون أن يختارها أحد، إلا صدف الولادة والنشأة العائلية، وظروف البيئة المحيطة وحدها. فالتغني بالمواطنة مجرد خطاب دعاوي عائم على سطح أوضاع مضادة تماما لأبسط حقائق المواطنة، فأوّلُ شروطها هو تكوّن الفردية الواعية لحقوقها، بدءا من تأسيس استقلال الشخصية على قاعدة الاعتراف المتبادل بالقيمة الموضوعية للذات مقابل الآخر، هذه القيمة لا يمكن إعطاؤها حقَّها من الاعتبار دون الارتجاع إلى معيار حضاري شامل يحدده مفهوم حقوقي شامل للمشروعية الإنسانية، تُغذيه مؤسسةُ التربية العامة، برديف مستديم من الوعي الجماعي المتقدم. لقد تمَّ حصار هذا الوعي لعقود متتابعة في نطاق الحراك السلطوي وحده؛ ثقافة أجيال النهضة اختزلتها أفقر الشعارات الدعاوية المستولية على المجال العام؛ فكانت أُحادية الفكرة تتطلب أُحادية النموذج الإنساني المطلوب. كان تعميم الأفكار الأحادية يصيب العقل الاجتماعي بالعقم الطفولي. كان الحرص الساذج على «نقاء العقيدة» يجرد كل عقيدة أخرى من خصوصيتها الفكرية، كان التثقيف العقائدي العدو الأول للثقافة. كان «الالتزام السياسي» سجانا ذاتيا لعقول أصحابه، فقد باتت ثقافة النهضة أفقر مذاهب الثقافة بالمعرفة والعالم والمستقبل؛ ذلك هو المحصول العملي للاستبداد، إنه التصحير المنظم للحياة العامة في مختلف حقولها الاجتماعية والتربوية والانتاجية، ذلك أن الاستبداد يعني، كتعريف أولي، منع الناس من أن يكونوا ذواتَهم. في عصر الاستبداد تتحقق هذه الآفات العدمية الثلاث، وذلك كما يأتي: يجري تسييس الدين، وأدلجة الثقافة، وعَسْكَرة السياسة، أما الاقتصاد فيجري اختطافه كليا لحساب أرباب السلطة، أما حديث المواطنة فينبغي مصادرةُ معانيه مقدما قبل الشروع في تحقيق أي شرط من شروطه المفهومية، وليس المعيارية فحسب. تغدو المواطنة في دولة الاستبداد أشبه باستحالة انتماء الشعب إلى ذاته وبلده قبل أن يسلّم كامل إرادته لحاكمه، فهو القادر وحده على منح الرعية حقوق المواطنة، أو يمنعها عنهم ساعة يرغب ويشاء. لكنها تظل تلك الحقوق المقنّنة سلفا، ولا ضمانةَ لها إلا مصالح الأمن الشخصي لسادة المجتمع، إذ يفترض هؤلاء دائما أنهم هم والشعب في حال عداء من طرف واحد على الأقل، بدايتُه في وضع الاغتصاب الذي يمارسونه لخيرات البلاد رغما عن أنف أبنائها. مجتمع الاستبداد، هو مجتمع الفساد بالتلازم المنطقي والضرورة البنيوية ما بين الحدّين. كل أكلاف الاستبداد المادية والمعنوية الهائلة تعوضها منافع الفساد المسروقة من أصحابها الشرعيين. وما الأهوال التي يخوضها الاستبداد وهو في خط الدفاع الأخير عن وجوده، سوى الفرصة المتبقية لاستعادة عصر، ولو بقوة الوهم، لكنه عصر مضى وانقضى. يبقى القول إن نهاية حقبة الاستبداد لا تعني ميلاد عكسها بصورة آلية؛ فالبناء على حطام الماضي قد يوحي للبعض بالاستعانة بأحجاره القديمة لإشادة الصروح الجديدة. وتلك هي حقيقة من حقائق التطور، لكنها لم تعد تفيد في فهم التحولات المجتمعية المعاصرة الكبرى، إذ أصبح نموذج المجتمع الحر كأنه إعادة تكوين لمادة لم تكن موجودة. ولا بد من إنتاجها جذريا، وتلك هي المسألة (الفلسفية) الأصعب في ثقافة الحداثة؛ ولا بد من مواجهتها كما لو كان التاريخ يولد من جديد.