في ظل الحديث عن إصلاح المنظومة القضائية ببلادنا وفي إطار الأحداث المتلاحقة المتجلية في ضبط بعض القضاة متلبسين بجريمة الرشوة (قضية طنجة-قصبة تادلة)، تعالت الأصوات لزجر المخالفين وإنزال أقصى العقاب برموز إفساد الإدارة القضائية. لكن التحليل الرصين لهاته الظاهرة وتناولها بنضج وملامستها بشكل علمي متعدد الأبعاد وإعمال المقاربة الشمولية بدل التجزيء والتفكيك الاختزالي، يقتضي منا تسمية الأشياء بمسمياتها واستحضار الجوانب السوسيولوجية والسيكولوجية والقانونية في التعاطي مع القاضي الموظف والقاضي الإنسان، على اعتبار أن كليهما ينتج أحكاما ويصدر أوامر بالاعتقال والإيداع بالسجن. القاضي الإنسان بشر يمكن أن يرتكب أخطاء، تتجاذبه مجموعة من الأهواء، وتمر أمامه يوميا العشرات من القضايا أغلبها منازعات حول مبالغ مالية ضخمة وأصول عقارية مهمة، فكيف يمكنه أن يقاوم هاته الإغراءات؟ هنا مكمن الفرق، فالقاضي الإنسان يحكِّم ضميره المهني ويتعفف ويوظف قناعته الوجدانية قبل أن يدبج منطوق الحكم، أما القاضي الموظف فهو الذي يستجيب للتعليمات وينحاز إلى أحد طرفي الخصومة بشكل متعسف، جلي وظاهر للعيان، مقابل رشاوى أو استجابة لتدخلات معينة، ضاربا عرض الحائط بمبادئ الحياد والإنصاف وإحقاق الحق. وفي المقابل، توجد شريحة واسعة من القضاة الشرفاء المتسمين بالنزاهة والشهامة والشجاعة في مواجهة التعليمات المشبوهة، مهما كان مصدرها وكيفما كان منصب ووزن الأشخاص الصادرة عنهم. القضية في مجملها مرتبطة بالدرجة الأولى بالجانب التكويني وكيفية إعداد قضاة مختصين مهنيين ومحترفين، فالقاضي في هذا الباب مجبر على أن يمر من جميع مراحل التقاضي التي يمر منها المتهم، إذ يجب ابتداء أن يقضي 48 ساعة داخل مخافر الشرطة في إطار الحراسة النظرية لكي يشعر بالقرف والاشمئزاز داخل مقرات تلك المخافر؛ كما يجب أن يقضي مدة وجيزة في السجن بمعية معتقلي الحق العام، والهدف من هاته العملية أن يحس بمرارة السجن وخطورة الاعتقال، وأن يستحضره أثناء تحريره لسطر أو سطرين يقضي من خلالهما بإيداع متهم معين بالسجن، وأن يراعي التبعات الكارثية الناتجة عن هذا الأمر، فالمسألة تبدو بسيطة في شكلها ولكنها خطيرة في جوهرها لأن الممارسة العملية/الميدانية والوقوف عن قرب على قساوة تجربة الاعتقال وتأثيراتها النفسية والاجتماعية ستجعل منه لا محالة قاضيا حكيما، متمهلا، غير متسرع في إصدار أي قرار مهما كانت خطورة الأفعال المرتكبة. ومرورا عبر ردهات محاكم المملكة، سواء منها العادية أو الإدارية، يقف المتتبع على شقين من الأحكام: أحكام جريئة ترفع قضاتنا إلى أعلى الهرم القضائي العربي والعالمي، وأحكام غريبة متحيزة، ظالمة، ما أنزل الله بها من سلطان تنذر بأن الجسم القضائي في بلادنا تنخره مجموعة من الأمراض المزمنة وأنه وصل إلى مرحلة متقدمة من التسيب والتخلف. تأسيسا على ذلك، أقر الملك الراحل، في إحدى خطبه بمناسبة افتتاح دورة قضائية، بأن أربعة أحكام إدارية قد صدرت ضده ونفذت، ولا زال الكل بخير. وهذا رد مقنع على التوجه الكلاسيكي للغرفة الإدارية في المجلس الأعلى التي كانت تعتبر القرارات والظهائر الملكية مبرمة ومحصنة ولا تخضع لرقابة القاضي الإداري وتدفع بعدم الاختصاص ولا يمكن مخاصمتها إلا على سبيل الاستعطاف، في حين أن مبدأ المشروعية يقضي بأن جميع السلط يجب أن تطالها رقابة السلطة القضائية؛ إضافة إلى التأويل الخاطئ لمفهوم السلطة التقديرية للإدارة. هذا المقتضى القانوني لا يعني أن يدَ الإدارة مطلقة ويمكن أن تفعل ما تشاء من سلوكات وتصرفات وتصدر ما يعن لها من عقود وقرارات، بل المفهوم الحديث لهذا الامتياز الإداري هو الالتزام بالضوابط القانونية مع خضوعه أيضا للرقابة القضائية في إطار سلطة الملاءمة ومراعاة نظرية الغلو والتناسب في تقدير الأمور. أما بالنسبة إلى القضاء العادي، فالأمر يحتاج إلى وقفة تأمل لأن هناك أوامر وقرارات وملتمسات يشيب لهولها الولدان، كأن يلتمس ممثل الادعاء العام من قاضي التحقيق متابعة زوج احتجز زوجته في حالة اعتقال مع وجود عقد زواج شرعي سليم واعتراف الزوجة بأن هاته القضية مفبركة من طرف أبيها وأنه لا وجود لجريمة الاحتجاز، أو أن تعمد النيابة العامة إلى انتزاع اعترافات طبيبة عن طريق التسجيل الصوتي والتحايل على القانون،.. فهذه الممارسات تعد من الأخطاء القضائية الجسيمة التي ينبغي التصدى لها من طرف المفتشية العامة لوزارة العدل من خلال إيفاد لجان التفتيش لتدقيق الأحكام والمتابعات والتكييفات الغريبة التي تثير احتجاجات المتقاضين. لقد أعطى المشرع مجموعة من السلط لقضاة النيابة العامة، منها سلطة الاتهام وسلطة التكييف وسلطة المتابعة وإمكانية المطالبة بالسراح المؤقت للمتهم إذا توفرت ضمانات الحضور والمطالبة بالبراءة، والهدف المتوخى من ذلك هو محاربة ظاهرة اكتظاظ السجون وقرينة البراءة هي الأصل، لكن وبلغة الأرقام فقد أصبحت الآية معكوسة، إذ أصبحت الإدانة هي الأصل إلى أن تثبت البراءة، فالنيابة العامة كخصم شريف للمتهم غالبا ما ترفض الدفوعات الشكلية جملة وتفصيلا، وكذلك السراح المؤقت، ونادرا ما تطلب البراءة، ومجموعة من المقتضيات القانونية تبقى معطلة ولا يتم تفعيلها، كالإفراج المقيد مثلا. وهناك مجموعة من القضايا التي توبع فيها أشخاص في حالة اعتقال رغم توفرهم على جميع ضمانات الحضور كقضية حوادث السير الوهمية باستئنافية خريبكة التي توبع فيها مجموعة من الأطباء والمحامين وقضوا قرابة سنة من الحبس الاحتياطي إلى أن تم تمتيعهم بالسراح المؤقت، لكن تبعات الاعتقال لازالت جاثمة على صدورهم إلى يومنا هذا بعد أن فقدوا وظائفهم وعلقت أجورهم ولم يعد ممكنا أن تسوى وضعيتهم الإدارية إلا بعد مرور سنة أو سنتين دون الحديث عن الانعكاسات الاجتماعية والأسرية والنفسية الناتجة عن ذلك. إن الدستور الجديد يلزم الدولة بتعويض ضحايا الخطأ القضائي، لكن يجب أن يعمم هذا الأمر ليشمل أيضا الضحايا الذين يقضون سنة كاملة في غياهب السجون أثناء فترة التحقيق ثم يحصلون على البراءة أو عدم المتابعة، وذلك إعمالا لقواعد العدل والإنصاف والمبادئ العامة للقانون. وعموما، فإن العمل القضائي كالعمل السياسي، فيه الشرفاء والنزهاء، وأيضا المرتشون والمستبدون؛ ولا يمكن الحديث عن أي إصلاح في غياب استراتيجية واضحة المعالم للارتقاء بالمستوى المادي والأدبي للقضاة وضمان هيبة القضاء. لقد كانت مقرات محاكم المملكة في السابق عبارة عن (كراجات) مقارنة بالولايات والعمالات التي تتوفر على بنايات فخمة مترامية الأطراف، وهذا فيه مساس بهيبة القاضي؛ أما في الأقطار المجاورة، كمصر مثلا، فيسمون المحاكم بقصر العدالة احتراما وتوقيرا للسلطة القضائية. وعلى مستوى الأجور في بريطانيا، تمنح الدولة للقضاة شيكا موقعا على بياض يملؤونه بما يريدون من المبالغ المالية لتحصينهم ضد آفة الرشوة، ويتنافس القضاة في ما بينهم لسحب أقل قدر مالي ممكن، هاته الإمكانية غير متاحة في بلادنا لأن ميزانية الدولة كلها ربما لن تكفي، ولكن ينبغي مراجعة الأجور في حدود المعقول والإمكانيات المتاحة بما يضمن العيش الكريم لهذه الفئة المهمة من الموظفين. ومن هذا المنطلق، فإن وزارة العدل تعد من أغنى الوزارات في بلادنا، ومن واجبها الاعتناء بالقضاة والرقي بمستواهم الاجتماعي، لأن إصلاح القضاء يعني بالدرجة الأول جلب الاستثمار الأجنبي وخلق المزيد من فرص الشغل والحد من معضلة البطالة وتحقيق الأمن والاستقرار؛ أما سياسة شد الحبل بين الوزارة ونادي القضاة فمن شأنها تعطيل هذا الورش الاستراتيجي الكبير؛ ويمكن الاستدلال هنا بما وقع في فرنسا، حيث رفضت الدولة الزيادة في أجور القضاة فلجأ هؤلاء إلى إصدار غرامات موقوفة التنفيذ في مختلف الأحكام الصادرة، مما فوت على الخزينة الفرنسية مداخيل مهمة، وظل الحال كذلك إلى أن استجابت الدولة لمطالبهم. أستاذ بكلية الحقوق/سطات