الحاجة لتسريع ورش إصلاح القضاء أكدت واقعة اعتقال قاضي بطنجة عن الضرورة الملحة لإعادة الاعتبار لجهاز القضاء، الذي يراد تحويله إلى سلطة مستقلة في ظل تنزيل الدستور الجديد. ردود الفعل التي أعقبت الواقعة تراوحت بين الارتياح الحذر والتشبث بقرينة البراءة والمحاكمة العادلة. جزء من الرأي العام المتتبع اعتبر أن الواقعة تؤكد الحالات المرضية التي تنخر قطاع العدالة، الذي لا أحد ينفي حاجته إلى اصلاحات عميقة تجعل حدا للممارسات بعض المرتشين ولعقليات الفساد.من جهتهم، يحرص نشطاء حقوق الإنسان ومختلف الفعاليات التي تناضل من أجل قضاء نزيهة ومستقل، على التعامل مع هذه الواقعة وفق معايير المحاكمة العادلة واحترام كافة حقوق القاضي المتهم، بما في ذلك متابعته في حالة سراح. في هذه الورقة نرصد مواقف بعض الهيئات من القضية المذكورة، بارتباط مع مستلزمات الاصلاح المنشود، وقبل ذلك نستعرض تطورات ومستجدات القضية. كمين الاعتقال تحت إشراف وزير العدل جاء في موقع حزب العدالة والتنمية أن مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، أشرف بشكل شخصي على الإجراءات المصاحبة لعملية اعتقال قاضي طنجة المتهم بجريمة الرشوة. وفي هذا السياق، اعتقلت مصالح الفرقة الوطنية للشرطة القضائية المدعو «م.ن.ب» ليلة الأربعاء 18 يناير 2012، وبحيازته مبلغ مالي يشتبه في كونه متحصلا عليه من خلال جريمة الرشوة عن طريق ابتزازه لمستثمر تونسي صاحب مشروع سياحي بمنطقة أشقار بطنجة. وحسب المعطيات المتوفرة، لموقع الحزب الذي يترأس الحكومة الحالية، فإن اعتقال القاضي المذكور تم بواسطة نصب كمين محكم بالتنسيق مع الطرف الثاني في ملف الارتشاء، عقب قيام هذا الأخير بالتبليغ عن عزم القاضي المعتقل القيام بمساومته على حل إحدى القضايا. وتم تطبيق مسطرة التلبس بشكل دقيق عبر نسخ الأوراق المالية التي تكون منها المبلغ المالي المحدد في 25 مليون سنتيم، قبل تسليمه إلى المواطن التونسي من أجل إتمام الكمين الذي نصب للقاضي. وأضاف الموقع، أن القاضي المعتقل، التحق منذ أقل من عشرة أيام بالمحكمة الابتدائية لطنجة في إطار الحركة الانتقالية، بعدما قضى عدة سنوات نائبا لوكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالعرائش، وقاضيا للتحقيق بمدينة القصر الكبير. مباشرة بعد شيوع خبر الاعتقال، طلعت بعض الصحف على قرائها أن مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، كشف لها تفاصيل عملية اعتقال القاضي بطنجة. وأكد الوزير، لهذه الصحف، أنه طلب استقبال المشتكي التونسي، نظرا لخطورة الاتهامات الموجهة إلى القاضي، وبالنظر إلى مركزه الحساس وحتى لا يكون الأمر مجرد شكاية كيدية أو تصفية للحسابات، إلا أن المشتكي أو المبلغ، أكد للوزير صدق ما جاء في شكايته، وهو ما أدى إلى تسريع تفعيل الإجراءات القانونية. يبعا لذلك أعطى الرميد تعليماته إلى الضباط الذين تولوا عملية الاعتقال، وإلى الوكيل العام بطنجة الذي أشرف بشكل مباشر على عملية الاعتقال، مشددا على ضرورة العمل على تمتيع القاضي موضوع الشكاية بقواعد الامتياز القضائي، على اعتبار أن الهدف من ذلك هو الوصول إلى الحقيقة دون المساس بهيبة القضاء. بخصوص تفاصيل الواقعة، أو حالة التلبس، نشرت وسائل اعلام محلية ووطنية ما يفيد أن القاضي المتهم صرح في محضر الاستماع إليه «أن صديقه المستثمر التونسي اتصل به من أجل لقائه، إلا أنه رفض ذلك في البداية، وبعدما ألح عليه بواسطة الهاتف، يتم الاتفاق على اللقاء بأحد مطاعم طنجة بالمدينة، وعند حضور القاضي لم يجده بالمكان المتفق، فربط الاتصال به ليخبره أنه جالس داخل سيارته بالقرب من المطعم، وما إن وطأت قدماه السيارة باغتته عناصر الفرقة الوطنية للشرطة، حيث عثر على حقيبة تضم مبلغا ماليا مهما فتم توقيفه على الفور واقتياده إلى مركز الشرطة ومن تم إلى المحكمة ولحال على قاضي التحقيق الذي أمر بإيداعه بالسجن. في رواية أخرى، نشرتها منابر صحفية، زعم المشتكة التونسي أنه التقى بالقاضي المتهم قبل أربعة أشهر في طنجة، ثم عاد إلى الالتقاء به قبل أسبوع تحت مراقبة الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، مضبفا أن الترتيبات المتفق عليها كانت ترمي إسقاط القاضي الممسك بالملف وليس نائب وكيل الملك المعتقل الذي توسط له... ونسب للمشتكي قوله أنه اتفق مع المسؤول القضائي المعتقل على أن يسمله مبلغ 10 ملايين سنتيم كدفعة أولى، على أساس تسليمه الدفعة الثانية مباشرة قبل إصدار الحكم. وأوضح المشتكي أنه سبق أن ربط الاتصال بالوكيل العام واشتكى له، وأقر الوكيل العام بحقه. وفي اتصال ثاني به أخبره المواطن التونسي صراحة بأن قاضيا وسيطا أشعره بأن القضاة الثلاثة الممسكين بالملف يطلبون 20 مليون سنتيم كرشوة... بناء على ذلك تم بالاتصال بجهات عليا وجرى ترتيب الأمور في سرية، ثم جاءت الفرقة الوطنية إلى طنجة مدة 15 يوما قبل اعتقال القاضي. وحسب وسائل إعلام محلية بطنجة إن «بعض المتتبعين يتوقعون أن يؤدي استمرار التحقيق مع القاضي المعتقل إلى الإطاحة برؤوس جديدة داخل سلك القضاء بطنجة، خصوصا وأن المنسوب للمتهم يفيد بأنه كان مجرد وسيط». ووفق ذات المصادر، إن عمليات مراقبة ضباط الفرقة الوطنية للشرطة القضائية للمشتكي التونسي، الذي اتهم قاضي طنجة المعتقل بابتزازه، بدأت يوم 8 يناير الجاري. وتوقع مصدر قريب من التحقيق، حسب ما نشر، أن تكشف التحقيقات والتسجيلات الصوتية، التي خضع لها هاتف المشتكي، عن خيوط جديدة بالنظر لعلاقات المشتكي مع قضاة ونافذين... وأكد المصدر ذاته، لبعض المنابر المحلية، أن القاضي المتهم نفى، خلال الاستماع إليه من طرف قاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف بطنجة، أن يكون المبلغ المالي الذي ضبط تحت الكرسي الذي كان يجلس فوقه بسيارة المشتكي في حوزته. ويترقب المتتبعون أن يواصل قاضي التحقيق الاستماع إلى بعض الأشخاص الذين لهم علاقة بواقعة الرشوة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن لهم علاقة بالقضية القضية الأم المعروضة على قضاء طنجة، والمتعلقة بالنزاع القائم بين التونسي المشتكي وطرف آخر حول من له الأحقية في ملكية مركب سياحي بالمدينة. واعتبرت عدة مصادر أن التحقيقات التي باشرتها الضابطة القضائية، تحت إشراف الوكيل العام بمحكمة الاستئناف بطنجة، ترتكز على مجموعة من التسجيلات الهاتفية، بعدما كان الشاكي قد وقع في وقت سابق على ترخيص للمحققين يسمح بإخضاع هاتفه النقال للتنصت على جميع مكالماته طيلة المدة الأخيرة، مما يعني أن التحقيق، حسب ذات المصادر، سيقود إلى مواجهة كافة الأشخاص المعنيين. وبارتباط مع التحقيق، طالبت جمعية هيئات المحامين بالمغرب من قاضي التحقيق المكلف بالقضية الاستجابة الفورية لمطلب هيئة الدفاع في الحصول على نسخ من جميع وثائق الملف احتراما للقانون ولحقوق الدفاع. واستنكرت الجمعية في بلاغ لها الأسبوع الماضي منع هيئة دفاع القاضي من الحصول على نسخ وثائق الملف، واعتبرته مساسا بشروط المحاكمة العادلة. ردود الفعل بين قرينة البراءة والتأكيد على محاربة الفساد تفاوتت ردود فعل المتتبعين والمعنيين بالشأن القضائي.في سياق تداعيات اعتقال المسؤول القضائي بطنجة، عقد المكتب التنفيذي لنادي قضاة المغرب اجتماعا طارئا بطنجة، تم خلاله القضية، واعتبر النادي أن قرينة البراءة مبدأ عام يسري على جميع المواطنين، إلى أن تثبت الإدانة بحكم حائز لقوة الشيء المقضي به، كما سجيل عدم تطبيق مبدأ التقاضي على درجتين بخصوص محاكمة القضاة أسوة بباقي المواطنين، وطالب بضرورة التدخل من أجل إقرار نص تشريعي يضمن مساواة القضاة مع باقي المواطنين بخصوص مبادئ المحاكمة الجنائية، وضرورة تحسين الوضعية المادية للقضاة باعتبارها المدخل الحقيقي لأي إصلاح. من جهته، عقد المكتب المركزي للودادية الحسنية للقضاة اجتماعا بالبيضاء، وصف بالطارئ، بعد تلقيه خبر اعتقال قاض بطنجة بتهمة الارتشاء. وقرر خلاله إيفاد لجنة من أعضائه لزيارة المعني بالأمر بسجن طنجة قصد معاينة ظروف اعتقاله، والاطمئنان على حالته الصحية والنفسية، كما كلف اللجنة نفسها بالاطلاع على ملف القضية ومدى احترام المساطر المعمول بها في هذا الشأن، وذلك في إطار احترام تام لاختصاص الجهات القضائية المكلفة بالبحث ودون أي تأثير منها على ظروف المحاكمة العادلة. وذكر بلاغ الودادية أن مبادرة المكتب المركزي تنطلق من احترامه لمبدأ «قرينة البراءة هي الأصل». وبعد أن تمنت الودادية أن تكون النازلة مجرد محاولة كيدية للنيل من القاضي موضوع الاعتقال، ذكرت بمواقفها الثابتة وبانخراطها الكامل في محاربة الفساد على مختلف المستويات. من جانبه، عقد المكتب الوطني للنقابة الديمقراطية للعدل، العضو بالفدرالية الديمقراطية للشغل، اجتماعا له مساء يوم الأحد 22 يناير 2012 بالرباط، وفي سياق بع استعراضه مختلف المستجدات التي يعرفها القطاع، خاصة فيما تعرفه بعض المحاكم من توتر وتطورات معركة محاربة الفساد، تدارس قضية نائب وكيل الملك بطنجة، موضوع مسطرة التلبس بتلقي الرشوة. واعتبر في بلاغ صادر عنه أن هذا الملف هو من اختصاص القضاء وحده للقول بتورط المتابع من عدمه، دون أن يفوته أن يسجل في الشق الشكلي غياب ضمانات المحاكمة العادلة. ولاحظ البلاغ أنه تم الانتهاء من البحث التمهيدي وإحالة المسطرة وتكييفها والإحالة على قاضي التحقيق في زمن قياسي، فضلا عن متابعة المتهم في حالة اعتقال والحال أن له من الضمانات ما يكفي للحضور. ونبه المكتب الوطني إلى «خطورة وحساسية الوضع القانوني الذي أراد المبلغ عن الرشوة أن يخلقه لنفسه، خاصة إذا علمنا حجم الملفات الرائجة باسمه والتي توحي من مجرد الاستئناس بمعطياتها واستحضار مضامين قانون حماية المبلغ عن الرشوة، كون الملف في شموليته مثار شك وريبة نأمل من قضائنا أن يقدم الجواب الشافي عنها». بارتباط مع هذا، جدد المكتب الوطني للنقابة الديمقراطية للعدل إعلان التزامه بمعركة مناهضة الفساد والمفسدين، وينتظر «من وزارة العدل إعلان إستراتيجية مندمجة لتطهير القطاع وفق تصور يتكامل فيه الزجر مع التكوين والتأطير والمتابعة وتحسين الأوضاع المادية والمهنية للعاملين بالقطاع، بدل فرقعات هنا وهناك في الوقت الذي يصول ويجول فيه عرابي الفساد الحقيقيين دون حسيب أو رقيب». وجاء في بيان «الإئتلاف المغربي لهيئات حقوق الانسان لمراقبة محاكمة القاضي المعتقل بطنجة» الذي تشكل من 18 هيئة حقوقية مغربية، «أنه انطلاقا من المعطيات الأولية المتوفرة لديه فقد تم احترام الإجراءات القانونية المتعلقة بالمساطر الإستثنائية بالنسبة للقاضي المعني، وسيكون الائتلاف حريصا على دراسة ملف هذه القضية، ومراقبة أطوار المحاكمة للتأكد من تمتيع المشتبه فيه بكافة شروط وضمانات المحاكمة العادلة». وأضاف بيان الائتلاف، أنه «اعتبارا لأن الهيآت الحقوقية المغربية المشكلة للائتلاف المغربي لهيآت حقوق الإنسان ظلت دوما تناهض ممارسات الفساد والرشوة في جسم القضاء كما في المجتمع برمته، مهما تكن الجهة المقترفة، فإنها تطالب وباستمرار بدعم كل إصلاح يروم تحقيق استقلال القضاء ونزاهته وكفاءته وتوفير الشروط المادية والمعنوية لقيامه بمهامه، لأن ذلك يشكل إحدى المداخل الأساسية لوضع أسس دولة الحق والقانون ببلادنا». الحاجة لتسريع ورش إصلاح القضاء من خلال جرد بعض المعطيات المرتبطة بهذه النازلة، يتضح أن واقعة القاضي المعتقل جرى التعامل معها بأكثر ما يمكن من الموضوعية والمهنية من مختلف المهتمين والمتابعين، مع الاشارة أن القضاء وحده يعود إليه الحسم وتصحيح أي اختلال أو خطإ. بالموازاة مع هذا، إن هذه الواقعة وممارسات أخرى تسيئ للعدالة تقتضي فعلا التسريع بورش اصلاح القضاء وإعطاء الأولية للمجالات الستة التي ركز عليها الخطاب الملكي، المثلة في: دعم ضمانات الاستقلالية، تحديث المنظومة القانونية، تأهيل الهياكل القضائية والإدارية، تأهيل الموارد البشرية تكوينا وأداء وتقويما، الرفع من النجاعة القضائية، تخليق القضاء لتحصينه من الارتشاء واستغلال النفوذ ليساهم بدوره في تخليق الحياة العامة بالطرق القانونية.