إلى أين ينتهي العذاب السوري الراهن، وأي مخاطر يمكن تصورها عند خط النهاية، ومتى تنتصر ثورة الشعب السوري الباسلة، والتي صارت أطول الثورات العربية المعاصرة عمرا، وأكثرها بذلا للتضحيات؟ فقد سقط قرابة العشرين ألف شهيد في المعركة الرامية إلى خلع نظام بشار الديكتاتوري الدموي. وبالطبع، يتصور نظام بشار أن بوسعه البقاء، وأن آلته العسكرية الجبارة تكفل له تحقيق النصر على شعبه واختزال معنى الثورة في حكاية العصابات المسلحة، وأن القضاء عليها بات قريبا؛ وتلك أوهام دعاية ممجوجة تكررت طوال الوقت دون أن تؤدي إلى إطفاء نار الثورة، بل زادتها اشتعالا وتصميما، وأضافت إلى جغرافيا الثورة، التي لم تعد مقصورة على مدن في الأطراف أو في ريف دمشق، بل دخلت المدن الكبرى طرفا مباشرا في الثورة، وبدأت الأرض في دمشق وحلب تتزلزل تحت أقدام النظام، ودخلت فئات اجتماعية جديدة إلى حلبة المواجهة، ولم يعد ممكنا تصور أن يبقى النظام حتى لو أفنى السوريين جميعا. ويحاول النظام البائس تمديد أجله، على طريقة «أنا أو الفوضى»، ويشعلها حربا طائفية مسعورة، ويصور لطائفته العلوية أنها ستذبح لو سقط بشار، كما يحاول استقطاب الفئات المسيحية بدعوى الخوف على مصيرها من صعود التيار الإسلامي، ولا يزال يحاول استقطاب نسبة ما من السنة الذين يشكلون غالبية التكوين السوري، وفي البداية بدت هذه الفئات متحمسة للدفاع عن بقاء النظام ومتخوفة من تبعات التغيير، لكن إيغال النظام في دم السوريين، وقتل عشرات الألوف من الرجال والنساء والشباب والأطفال، وتحطيم قرى ومدن بكاملها، وتشريد قرابة المليوني سوري، واتباع سياسة «الأرض المحروقة»، كل ذلك جعل الفئات المؤيدة له (النظام) تستريب في جدوى موقفها، فلم يعد من أساس أخلاقي للدفاع عن جرائم القتل الوحشي اليومي، ولم تعد من ثقة في فعالية القوة الباطشة، خاصة أن مدن الثورة الأولى راحت تدافع عن نفسها، وتحمي التظاهرات السلمية، وتنقل عدوى التظاهر الحميدة إلى مدن القلب السوري، وتبني جبهة مقاومة صلبة تكسب أرضا كل يوم، فقد أدت دموية النظام المفرطة إلى عسكرة الثورة وتنمية قدراتها في الدفاع الميداني، صحيح أن عصابات مريبة دخلت على الخط، من نوع جماعة «القاعدة» وأخواتها، وبدت كأنها تؤدي خدمة مريحة للنظام الهالك، لكن هذه الظواهر لم تفد النظام كثيرا في ادعاء تصديه للإرهاب، فالمئات الذين يقتلون كل يوم من سواد الشعب السوري، هؤلاء ليسوا من جماعات الإرهاب التي تقتل لمجرد القتل، وقد فاقها سلوك النظام الإرهابي الذي لا يتورع عن قتل المتظاهرين المسالمين، وتزداد همجيته باطراد، ويبدو كذئب جريح تتزايد شراسته مع اقتراب لحظة طلوع الروح. ويخطئ الذين يتصورون أن النظام سيبقى حتى لو انتقلت كل الترسانات الحربية الروسية والإيرانية إلى سوريا، فلا توجد قوة في التاريخ هزمت شعبا مصمما على نيل حريته، وما تبقى من النظام السوري مجرد قوة احتلال، تعاني شعور الغربة، وينحسر عنها تعاطف من تبقى نصيرا ومؤيدا، وتشعر بالإنهاك البدني المتزايد يوما بعد يوم، وتتلطخ الأيادي بعار الدم المسفوك، ومع الإنهاك يتزايد الارتباك ويتحول الصداع في الرأس إلى صدع في الجسد، وهو ما يفسر التطورات التي طرأت على حالة النظام السوري، فقد بدا صلبا متماسكا في شهور الدم الطويلة المريرة، وبدت الانشقاقات الأولى جانبية أو قاعدية محدودة، كان الذين ينشقون في البداية جنودا أو ضباطا برتب صغيرة، لكن الانشقاقات الأخيرة صعدت السلم، وبدا نوع جديد من الانشقاقات العسكرية والدبلوماسية، انشقاقات في الكادر الأساسي وتصدعات بالقرب من النواة الحاضنة للديكتاتور وعائلته، وما جرى الإعلان عنه مؤخرا مجرد إشارة إلى ما يجري وسيجري، فسوف تتزايد الانشقاقات في محيط القيادة، فقد آن أوان الهروب من سفينة بشار الغارقة الموحولة بالدم، وكثير من معاونيه سوف يعلنون انشقاقهم، إما توقيا لمصائر محاكمات متوقعة مع سقوط نظامه أو طمعا في مقاعد متقدمة في النظام الذي يليه، وربما تتطور حوادث الانشقاق -في لحظة بذاتها- إلى تمرد فعلي في الجيش، يأخذ غالب القيادة إلى صف الثورة، ويحفظ لسوريا الجديدة تماسكا تحتاجه في فترة الانتقال، ويحفظ جغرافيا البلد من التمزق، ويعزز وحدتها الوطنية الداخلية، وينزع هواجس القلق من انفجارات طائفية مفزعة، فانتقال الجيش -بصلب قيادته- إلى موقف داعم للثورة يبدو أقصر الطرق إلى النهاية السعيدة. وكما يحدث في كل بلد وكل ثورة، تبدو حسابات الحصاد غير حسابات البذار، وهو ما يدعو إلى التوقف قليلا عند قصص أطراف المعارضة السورية، وفيها الصالح والطالح، والأصيل والدخيل، والمتسق والمرتزق، وإن كانت صورة فصائلها جميعا لا تتطابق -في ظني- مع صورة الحكم البديل المتوقع بنهاية بشار، والأغلب -في ما نظن- أن تكون الصورة مختلطة وأن يضم التكوين الانتقالي قسما من المعارضة مع قسم آخر ينشق عن النظام، وليس مستبعدا حدوث توافق أمريكي-روسي عند نقطة معينة، وأن تكون تركيا هي الراعية الأولى لترتيبات وراثة بشار؛ وتواتر الأمارات والإشارات يبدو ظاهرا، فخطة عنان، التي فشلت ميدانيا، تنتقل الآن إلى أولوية الحل السياسي، والانشقاقات السياسية والعسكرية تمضي بالتوازي، والتدخل العسكري الدولي تتباعد أشباحه، فيما تتزايد أمارات التدخل السياسي ومفاوضات الكواليس.