لا يصح لأحد أن يتجاهل ألم سورية العظيم، ولا نزيف الدم المتصل السيال في مدنها وقراها، وقد لفتت نظري لافتة مرفوعة في مظاهرة تطالب بإسقاط نظام بشار الأسد، اللافتة حملها شخص عادي من عموم السوريين، وبدت عفويتها ظاهرة في عباراتها، وفي طريقة كتابتها البدائية، وفي تبيان الألم الذي يحسه السوريون الآن، والذي يصل إلى ما يشبه اليأس من كل شيء، كان نص اللافتة المؤلمة يقول: «يسقط النظام وتسقط المعارضة، تسقط الأمة العربية والإسلامية، يسقط العالم، يسقط كل شيء». بدت اللافتة العفوية طافحة باليأس، ناضحة معبرة عن ألم السوريين من تركهم وحدهم، يواجهون بصدورهم العارية آلة قتل جبارة، يسقط منهم الآلاف شهداء، ولا ينتصف لهم أحد، ولا يدعهم أحد يشيعون جنازات أحبائهم، فالجنازات أيضا يطاردها الرصاص، والذي يذهب لتشييع جنازة كأنه يذهب مع الميت إلى الآخرة، كأنه يشيع نفسه، وليس فقط أخاه أو ولده أو قريبه أو صديقه، فلم تعد في سورية حرمة لشيء، لا حق الحياة مكفول ولا حتى حق الذهاب إلى القبر، والنظام الحاكم مصمم على البقاء بأي ثمن، وحتى لو قَتل السوريين جميعا وأحرَق مدن سورية كلها وجلس يغني على الأطلال المحترقة كما فعل نيرون روما. كل هذا الدم ينزف، ونظام مصاصي الدماء لا يرتوي ولا ينتهي عطشه إلى المزيد من بحور الدم، فأرقام الشهداء تتزايد وأرقام الجرحى تتضاعف، بينما لا يبالي النظام، ويواصل حربه المجنونة ويواصل خرافاته عن العصابات الإرهابية المسلحة، وكأن هناك عنوانا آخر للإرهاب في سورية غير نظام بشار الأسد الذي يكرر مذابح الأب، فعلها حافظ الأسد في حماة قبل ثلاثين سنة ويفعلها ابنه بشار في عشرات المدن والحواضر السورية، فعلها حافظ الأسد في ظلام التعتيم ويفعلها بشار في زمن الصوت والصورة المنقولة على الهواء مباشرة، لا يرحم طفلا ولا امرأة ولا ينجو من حفلة الدم شاب ولا شيخ، إلى حد أصبحت معه عناوين القتل هي سيرة سورية كل يوم، النظام يواصل القتل والدهس، والشعب يواصل صموده وإصراره البطولي، يتحدى اليأس ولا يخشى الموت ويكره المذلة ويصمم على نيل الحرية التي يدفع فيها أغلى ثمن . وربما يرى البعض أن النظام قادر على البقاء، وبدليل ظاهري، وهو أن دمشق وحلب صامتتان، أو هكذا تبدوان، وفيهما ما يقارب نصف سكان سورية، بل ومشت المظاهرات في دمشق وحلب تؤيد نظام بشار، ثم إن النظام يبدو متماسكا، لم تظهر عليه بعد أعراض تشقق وأمارات زوال، ولأول وهلة يبدو الكلام مقنعا، وإن انطوى على قدر لا بأس به من العوار الأخلاقي واحتقار غضب سوريين في المدن الأخرى لمجرد أنهم ليسوا من الدمشقيين أو الحلبيين؛ ثم إن دليل البقاء هو نفسه علامة الفناء، فتماسك النظام الظاهر له سبب مفهوم، وهو الطبيعة الأمنية والعسكرية الصرفة لنظام بشار، فلا وجود لقوة حزبية أو شعبية، بل لتكوين أمني عار من أي إدعاءات إيديولوجية، ولسيطرة طائفية عائلية محكمة على أجهزة الأمن والاستخبارات والجيش، تستعرض عضلاتها الأكثر قوة في دمشق وحلب بالذات، وهو ما يفسر بعض الهدوء الإجباري الموقوت في المدينتين الكبيرتين؛ وكلما ابتعدت عن مركز المدينتين، تجد مظاهر الثورة التلقائية مرئية، على طريقة ما يجري في ريف دمشق وأطراف حلب، ولا قيمة حقيقية للمظاهرات التي خرجت مؤيدة في دمشق وحلب، فهي تحركات مصطنعة تماما، على الطريقة التي ألفتها الديكتاتوريات العربية الذاهبة؛ والذين رفعوا لافتات تأييد لبشار اليوم سوف يخرجون ضده غدا، وسوف يكتشفون كذبة حمايته لطوائف بعينها، فالنظام عائلي محض ويفقد التأييد باطراد حتى في أوساط طائفته العلوية الكريمة. صمت دمشق وحلب، إذن، مجرد عارض موقوت، وما يبدو من تماسك للنظام مجرد تضامن عائلي، وقد دخل النظام دورة الإنهاك وتسبب استخدامه لقوات الجيش في كسر هيبته وفي انشقاقات تتزايد في أطراف الجيش وفي تحميل الجيش لشبهة صراع الطوائف؛ والذين انشقوا بالفعل عدد محدود من الذين يريدون فعلها، وربما يؤجلون قراراهم إلى لحظة الحسم، فهم يريدون صيانة كيان الجيش وحفظ وحدته وينتظرون أن يسقط النظام من الإجهاد، فالشعب السوري مستعد لتقديم أضعاف ما سقط من الشهداء، بينما النظام السوري تتناقص قوته، وتحيطه الفضائح، وتتلطخ يده بالدم، وتتزايد شراسته كذئب جريح، ولا يملك أن يمنع نفسه من مواصلة الجريمة، ويمضي في طريق لا رجوع منه؛ وكلما بدا أنه حقق نصرا بقتل ثائرين عليه بدا أن تظاهرات الثوار تنحسر، وكلما بدا أنه ينتصر بدت هزيمته أقرب، فالثورة ليست من فعل محرضين أو معارضين حتى تنحسر أو تنتهي بقتل هذا أو اعتقال ذاك، بل تنزح الثورة من فوائض غضب سياسي واجتماعي وإنساني مطمور، تنزح من آبار غضب لا تنضب، وكلما جلت مظاهرة حلت مظاهرة أكبر، وكلما زاد القمع زادت خبرة المتظاهرين؛ الثورة هذه المرة حرب عصابات شعبية تلقائية، متجددة وديناميكية، بينما النظام عصا ميكانيكية تنكسر، وليس في وسعه ترميم قوته المتآكلة ولا مراجعة سلوكه، فلو فكر في تخفيف قبضة القمع فسوف يسقط في لحظة، وبمظاهرات عارمة في دمشق وحلب بالذات، ولو استمر في القمع، وهو خيار بلا بديل بالنسبة إلى النظام، ويجعله يمضي في طريق حفر قبره، حتى لو تأجلت مواعيد الجنازة وتأخرت مراسيم الدفن، فسوف يسقط من فرط الإجهاد ويتحول الصداع في رأسه إلى شقاق فانشقاق وينتهي إلى قدره الإغريقي المحتوم، قدر أن يحقق النصر تلو النصر كما يتصور، وبالإيغال في دم السوريين، ثم أن تنتهي انتصاراته الملوثة إلى الهزيمة الأكيدة، وعلى الطريقة التي يوحي بها قول كاتب عالمي «يا له من نصر... نصر آخر كهذا وننتهي». نعم، سوف يسقط النظام السوري من الإنهاك، وسوف يحدث الانشقاق في الرأس، وتنتصر ثورة سورية، وطن العروبة الأبية، وسوف تسقط مع نهاية النظام أكاذيب وأراجيف وتخوفات، بينها التخوف على مصير وحدة سورية، فالنظام الحالي عامل تفكيك لا عنصر توحيد، ويشعلها حربا طائفية لضمان امتيازات عائلية، ويسيء إلى تاريخ الطائفة العلوية الكريمة التي رفضت إغراءات الاستعمار القديم وفضلت وحدة سورية على الانفصال بدويلة تخصها أو الصدام الأهلي مع السنة المسلمين، وهم الأغلبية الساحقة في التكوين السوري، وهم العمود الفقري الضامن لوحدة سورية، والضامن لتعايش عروبي جامع مع الشيعة والعلويين والمسيحيين والدروز وحتى الأكراد، ولبناء دولة وطنية ديمقراطية عربية حديثة يستحقها السوريون، ودفعوا من أجلها ضرائب الدم.