«... اكتفت بدور الزوجة والأم قبل أن يختار لها الآخرون لقب زوجة الزعيم.. قررت أن تلتصق ببطلها كالخيال وتواجه معه الكثير من العواصف والأعاصير والزلازل السياسية، التي اهتز لها العالم بأسره. سكنت قلبه وسكن قلبها قبل أن تسكن معه في عش الزوجية الصغير المتواضع بالإيجار بعيدا عن صور البهرجة والبروتوكولات الفارطة.. لم تصطنع لنفسها دورا كبيرا ولم تقتطع لنفسها أيضا مساحة في التاريخ واكتفت بأن تبقى خلف الستار كزوجة للرئيس فقط، قبل أن تقرر إزالة هذا الستار وتكشف عن أسرار مفجر الثورة الكبرى في النصف الأخير من القرن العشرين، وتكتب مذكراتها وتروي لنا الأحداث التي مرت بها مصر منذ حرب فلسطين وحتى رحيل عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970. مذكرات تسرد محطات تاريخية ظلت محاطة بهالة من الغموض لتضيف جديدا إلى ما استقر في الذاكرة العربية والمصرية من أحداث اكتسبت صيغة اليقين والحقيقة التاريخية.. مذكرات تكشف لنا المشهد الأول والأخير في حياة الزعيم جمال عبد الناصر وتضفي عليه دراما تاريخية لقصة المشروب الأخير، الذي تناوله ومن الذي صنعه ومن قدمه له وهو على فراش الموت.. إنها مذكرات تحية عبد الناصر...» بعد نجاح حركة الجيش والإطاحة بالملك فاروق، قدّم محمد نجيب على أنه قائد للثورة التي قامت صبيحة يوم 23 يوليو باحتلال مبنى الإذاعة، وتمّ من خلاله إذاعة بيان الثورة قبل أن يجبر الملك فاروق (بعد ثلاثة أيام) على التنازل عن العرش لابنه أحمد فؤاد ومغادرة البلاد، ويتم في اليوم التالي انتخاب عبد الناصر رئيسا للهيئة التأسيسية لمجلس قيادة الثورة، واحتفاظ محمد نجيب بمنصبه كرئيس لمجلس قيادة الثورة (كان عبد الناصر قد تنازل لنجيب عن هذا المنصب يوم 25 أغسطس/غشت 1952 عندما صدر قرار مجلس قيادة الثورة بضمّه إلى عضوية المجلس)، وبقي الوضع على ذلك الحال حتى يوم 18 يونيو من العام 1953 حيث صدر قرار مجلس قيادة الثورة القاضي بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وإسناد رئاستها إلى اللواء محمد نجيب إلى جانب رئاسته للوزارة التي شغلها منذ 7 سبتمبر 1952 بعد أن توّلى جمال منصبا عاما كنائب لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية، هذا المنصب الأخير الذي تركه سريعا بعد أن تركه لزكريا محي الدين. خلافات أوقعت بنجيب «... كانت الأنظار قد اتجهت إلى محمد نجيب (والكلام هنا لعبد الناصر في مقابلته الصحفية) وإلى قيادة هذا التنظيم بعد مرور عام على الثورة باعتباره الرجل الذي قادها بحكمة نحو التحرر وإسقاط السلطة الملكية، وأخذت صوره وخطبه تتصدّر الصفحات الأولى للصحف والجرائد المصرية حتى بعد تعيينه لقيادة مجلس الثورة، وهي صفحات حملت فيما بعد هجومه المسيء على رجالات الثورة واتهامهم بالفساد والعنف والجور بعد أن نشرت إحداها تقول : «لقد بدأ الضباط وبعد فترة قصيرة في محاولاتهم الخاصة لجني ثمار الثورة ولو على حساب المباديء والأخلاق، حتى شاع بين الناس أن الثورة قد طردت ملكا واحدا وجاءت بثلاثة عشر ملكا .... لن أسمح بمثل هذه التصرفات ولن أقف هنا مكتوف الأيدي أمام خروج الجيش من ثكناتهم وانتشارهم في مختلف المصالح والوزارات دون ضبط ودون رقيب أو حسيب... سوف تقع الكارثة إذا ما بقي الوضع على ما هو عليه الآن، فكل ضابط يريد أن يصبح قويا وتكون له شلّته الخاصة التي يغلب عليها النفاق، خاصة أولئك الذين لم يلعبوا أي دور يذكر لا في التحضير ولا في القيام بالثورة... إنني سأضرب من خلال منصبي بيد من حديد كل من يتجرأ على مخالفة أهداف الثورة.....». «... سرعان ما أخذت أقوال نجيب تثير غضب أعضاء مجلس الثورة ومخاوفهم، وتزايد عمق هذا الشعور بعد تضارب الآراء ومهاجمة نجيب لقرارات محكمة الثورة (أنشئت بغرض محاكمة زعماء العهد الملكي) التي كان من أهمها اعتقال عدد من السياسيين الذين كان على رأسهم مصطفى النحاس باشا ومصادرة أملاك زوجته زينب الوكيل (معارضة نجيب لمثل هذا القرار نظرا لعلاقة الصداقة القوية التي تربطه بالنحاس باشا) إضافة إلى مطالبه المتزايدة للتفرّد بالسلطة ومنحه الحق في اتخاذ القرارات التي من أهمها عزل وتعيين الوزراء والاعتراض على أي قرار يصدره مجلس الثورة بالإجماع، وهو ما دفع بنجيب (بعد تزايد الصراعات) إلى تقديم استقالته من منصب رئيس الجمهورية في 22 فبراير ليسارع مجلس الثورة إلى إقالة نجيب من منصبه كرئيس لمجلس القيادة في اليوم الخامس والعشرين من فبراير رغم معارضتي الشديدة لمثل هذا القرار وهذه الاستقالة، في ظل أحداث مثيرة تتطلب الثبات والقوة حتى تنقشع عنا الغمّة التي أصابتنا، إذ سارعت إلى إقناع نجيب بالعدول عن استقالته تلك كرئيس للجمهورية وإقناع مجلس القيادة بإصدار بيان نوضح من خلاله عودة نجيب إلى منصبه الرئاسي بتاريخ 27 فبراير 1954 جاء فيه «... حفاظاً على وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة اللواء أركان حرب محمد نجيب إلى منصبه رئيسا للجمهورية بعد موافقة سيادته على ذلك»، ليعود نجيب إلى السلطة سريعا قبل أن يغادرها نائيا في وقت وجيز وإلى الأبد (كانت الشائعات التي قام أنصاره بنشرها تفيد بأن محمد نجيب قد عاد إلى الرئاسة على أكتاف الجماهير التي رفضت استقالته وعلى أكتاف سلاح الفرسان الداعم له وبشدة، ذلك الجهاز الذي يعتبر الأكثر فتكا في الجيش) بعد اتهامه بالضلوع في محاولة اغتيالي الشهيرة بميدان المنشية وبعد إحباط مؤامرته ضد قلب نظام أعضاء مجلس قيادة الثورة المناوئين له والتي سميت بأزمة 1954 أو مؤامرة سلاح الفرسان...». مؤامرة سلاح الفرسان كانت الضربة الأولى لسلاح الفرسان بإشراف محمد نجيب بعد عودته الفورية لرئاسة الجمهورية ومطالبته مجلس قيادة الثورة بتعجيل عودة الحياة البرلمانية وإلغاء الأحكام القسرية والرقابة على الصحف والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، وهي قرارات (قرارات 5 مارس) أدرك معها أعضاء الثورة بأن هناك مؤامرة كبيرة يحيكها نجيب ضد أفرادها بعد أن استند بقوة إلى سلاح الفرسان والتأييد الشعبي الذي رفض استقالته، وهي أمور كان من شأنها أن تخلخل ركائز الثورة التي سهر الجميع على تحقيق أهدافها حتى آخر رمق في حياتهم، وبالتالي كان لا بد من إزاحة نجيب بطريقة سلمية تقي من إراقة الدماء وتصوّر للجميع بأن نجيب لا يصلح لقيادة الدولة، حتى جاءت الفرصة مواتية بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها جمال على يد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أثناء خطابه بميدان المنشية بالإسكندرية يوم 26 من أكتوبر 1954 بعد أن ثبت (وبناء على التحقيقات مع أفراد الإخوان المسلمين) ضلوع نجيب في تلك المؤامرة ليقرّر مجلس قيادة الثورة في 14 نوفبر إعفاء محمد نجيب من منصبه كرئيس للجمهورية ويتمّ إصدار الحكم عليه بوضعه قيد الإقامة الجبرية لمدة ثلاثين عاما قبل أن يفرج عنه ويستعيد حريته في حكم أنور السادات . الرئيس عبد الناصر بصدور قرار تنحية نجيب من منصبه الرئاسي للجمهورية بقي عبد الناصر محتفظا بمنصبه رئيسا لقيادة مجلس الثورة مع بقاء منصب الرئاسة شاغرا حتى يوم 24 يونيو 1956 الذي انتخب فيه عبد الناصر رئيسا للجمهورية بالاستفتاء الشعبي ووفقا لدستور 16 يناير 1956 (أول دستور للثورة) ليضحى بعد ذلك بسنتين رئيسا للجمهورية العربية المتحدة بعد إعلان الوحدة مع سوريا قبل أن يتم الانفصال بمؤامرة من الجيش السوري 28 سبتمبر 1961 ويعود جمال الى تقمص منصبه كرئيس لجمهورية مصر العربية حتى وفاته في 28 سبتمبر 1970.