«حلم بعضهم بالكثير قبل أن يتحطم حلمه ويعود من جديد ليلملم حطام هذا الحلم بحماسة شعبه ويبني له مكانا للحلم الجديد، معليا همما وعزائم ومحررا شعوبا وقبائل وراسما خريطة لشعبه إلى معترك التاريخ.. تمرَّد وثار حتى تحقق هذا الحلم.. حلم غلبت عليه خيبة الأمل لدى آخرين بعد أن تراجعوا بأنفسهم وشعوبهم إلى الوراء، مقنعين إياهم بأن الحياة ترجع إلى الوراء أحيانا بعد أن استلم بعضهم الحكم بالوراثة وبعد أن ثار وتمر َّد بعضهم حتى وصل إليه، فضيعوا شعوبا ومسحوا دولا وقتلوا وشرّدوا أمما حتى وجدوا مكانا لهم في محكمة التاريخ لتصدر الحكم في حقهم رغم بقاء آخرين في خانة اللجوء والثورة والتمرد حتى رحيلهم, محقَّقاً حلمُهم أو غير محقق... فمنهم من نجحوا ومنهم من سقطوا دون أن تسقط عنهم هالات الحب والتقديس، وهالات اللعنة أحيانا، لكونهم شخصيات تاريخية هزت البشرية»... في أثناء الحرب العالمية الثانية، تمكّنَ الجيش الألماني من “سحق” الجيشين الفرنسي والإنجليزي ومن احتلال مساحات ضخمة من فرنسا، ولم يكن من الممكن إخضاع أمة كبيرة بهذا الشكل إلى الأبد بقدْر ما سيكون مثل هذا الوضع مؤقتا فقط، حتى يتم الاتفاق على بنود المعاهدة النهائية، بعد انتصار أالمانيا، التي ستقطتع، طبقا لها، مقاطعتي “الألزاس” و”اللورين” وضمهما إلى الأراضي والسيادة الالمانيتين... كان مثل هذا الأمر بمثابة الأمر الواقع بالسنبة إلى الفرنسيين: فإمّا أن يوقّعوا هدنة فورية “يرضَون” فيها بالهزيمة أمام ألمانيا وإما أن يستمر هتلر في احتلال ما تبقى من أراضيهم ويعمد إلى “مسح” أمة كبيرة من وجه الخريطة، رغم أن مثل هذا الأمر لم يكن مقبولا حتى من هتلر نفسه.. ومن هنا أدّى هذه المهمة الماريشالُ بيتان، أحدُ ابطال الحرب العالمية الأولى، فاتهمه المؤرخون اليهود ومَن ُم على شاكلتهم بالخيانة، بعد أن نجح في مهمته بوقف الحرب بين الدولتين المتناحرتين.. كان هناك رجل آخر له رأي مخالف لِما يقال بهذا الخصوص، شخص لم يكن سوى شارل دوغول (ولد في مدينة ليل الفرنسية في عام 1890 (ذلك الرجل الذي تقلّد عددا من المناصب السياسية في البلاد، من أهمها عمله في سلاح المشاة منذ تخرجة في العام 1912).. ويرى مثل هذا الرجل أن على فرنسا أن تنتقم من هزيمتها وتثأر لنفسها وتكون إرادتها حرة ولا تفرض عليها من أي دولة أخرى مهما كانت الظروف، وإن كانت أوضاع فرنسا الآن لا تسمح بذلك، فيجب الكفاح والمقاومة ضد ألمانيا والحصول على مساعدة الدول الأخرى، حتى تحصل فرنسا على السلاح الكافي للتخلص من المحتل الألماني. رغم نجاح بيتان في مهمته بوقف الحرب، فإن ألمانيا ما لبثت أن احتلت فرنسا بكاملها، دون أن يطلق الفرنسيون رصاصة واحدة. وأخذ ديغول يرجع تلك الهزيمة إلى فشل المقاومة وعدم تدريبها، بل وإلى عدم الاكتراث بكلامه، الذي سبق أن أفتى به، متوقعا في ذلك الوقت هزيمة بلاده نتيجة تفشي الفساد والمحسوبية والدعارة بشكل فاحش داخل المجتمع الفرنسي بمؤامرة صهيونية قادها اليهود، حتى يعمّ الانحلال الأخلاقي وروح الشهوة وقتل الروح العسكرية وزرع الانهزامية بين الناس وهدم الأخلاق وزرع المكاسب المادية الهائلة من مافيا الدعارة ومجلات الجنس... اجتماع “الشياطين الثلاثة”.. ظل دوغول رافضا تماما فكرة استستلام فرنسا وهزيمتها على يد الألمان إلى درجة امتناعه من المشاركة في اجتماع “الشياطين الثلاثة” (روزفلت، ستالين تشرتشل) الذي تم في طهران عام 1943 لبحث الأزمة، وكان همه ينصب دائما على إيجاد طريقة يتم من خلالها تحرير فرنسا.. وبدأ مهمته بتكوين جيش جديد من عناصر قوات المُستعمَرات، الذين استُقبِل معهم استقبال الأبطال، معتبرا كلَّ من تعاون مع ألمانيا، وعلى رأسهم بيتان، بطل الحرب العالمية، خائنا للوطن... البطل يستقيل رغم اعتبار دوغول بطلا للتحرير، فإنه لم يستمرَّ في السلطة سوى عام واحد فقط، قبل أن يتركها في العام 1946 ويعود إليها في العام 1958، بعد أن عمدت العصابات الصهيونية إلى تشويه صورته بعد تصديه لمحاولات تهجير يهود أوربا الوسطى إلى فلسطين للتخلص منهم ومن أعمالهم وسياساتهم، رافضا السعي وراء تقسيم فلسطين، المنافي لصالح الشعوب العربية التي كانت تستعمرها فرنسا، الشيء الذي أدى، في نهاية المطاف، إلى خلعه من طرف اليهود، بفضل إدارتهم وسلطاتهم المتعددة ليجد نفسه مجبرا على الانسحاب من الحكومة عام 1946. دوغول يتحدى اليهود يروي عبد المنعم الحنفي في كتابه “عالم بلا يهود” أن النفوذ اليهودي كان يسيطر على القوة والحكم في فرنسا، حيث عائلة روتشيلد اليهودية ذات السلطة والنفوزذ الاقتصادي والتي كانت تتحكم في بورصات أوربا، والتي كانت في حوزتها 8 ملايير دولار، التي كانت تفوق ميزانية بعض البنوك الفرنسية الكبرى مجتمعة، والتي لم تتعد بضعة ملايين.. وقد كانت لهم طرقهم للسيطرة والإخضاع، فيبدؤون بالمال والرشوة، وفي نهاية المطاف، بالقتل والتصفية الجسدية، وكان هذا الأسلوب الأخير قاب قوسين أو أدنى من الرئيس دوغول، الذي أخذ يعارض وبشكل علني موقف الصهيونية، التي تريد إخضاع العالم لسيطرتها وتريد احتلال فلسطين على حساب تهحير أهلها وقتلهم والتخلص منهم.. وفي هذا يقول: “إنني أعي جيّدا حجم النفوذ اليهودي في فرنسا، خاصة في المجال العكسري، وأقصد هنا السيطرة اليهودية التامة على شركة “داسو”، لصاحبها مارسيل داسو، التي تنتج طائرات “ميراج”، والمتحمس جدا للسياسات الصهيونية، والذي يشكل في حد ذاته “دولة داخل دولة”.. لن أسمح بتلك السياسات مطلقا.. إنني أدين السياسات التوسعية لليهود في فلسطين بشكل خاص. لقد دُلّل هؤلاء اليهود كثيرا حتى أصبحوا يشعرون أنهم، وعلى الدوام، الطبقة الراقية والمختارة التي يحق لهم فعل اي شيء”.. منع السلاح عن إسرائيل لقد ضرب دوغول المصالح اليهودية عرض الحائط ومنح الجزائر الاستقلال في العام 1962، رغم معارضة الفرنسيين لمثل هذا الاستقلال، بدسائس يهودية خفية، معتبرين الجزائر “قطعة من فرنسا” وليس مستعمرة من مستعمراتها.. وعندما دقّت طبول حرب في العام 1967، أعلن دوغول منع تصدير السلاح الفرنسي إلى الطرف البادئ في العدوان (وكان يقصد إسرائيل).. متحديا بذلك اللوبي اليهودي ووسائل إعلامه، التي غسلت عقول البشر وشرعت في اتهامه بمناصرة العرب ومعاداة السامية، رغم أنه كان مؤيدا لهم لفترة دامت تسع سنوات تقربيا (1958 - 1964) وشرع، إضافة الى هذا المنع، في إفشاء سياساتها التوسعية في فلسطين، مغيرا بذلك صورة فرنسا “المُستعمِرة” في الوطن العربي إلى “دولة صديقة” لهم، بعد أن أقام علاقات صداقة قوية وألغى الدستور الماسوني اليهودي الموضوع في فرنسا منذ العام 1875، واضعا دستورا جديدا اكتسب معه عدواة اليهود الكاملة، والذين خاضوا ضده مظاهرات الطلبة والعمال بعد سيطرتهم على النقابات والرأي العام الفرنسي، ما اضطر معه دوغول إلى الاستقالة في يناير 1969، بعد بعد نتائج الاستفتاء الشعبي لماي 1968، الذي تبيّنَ منه أنه فقد شعبيته تدريجيا.. وتمكنت هكذا الصهيونية من السيطرة على السلطة والحكم في فرنسا.. وفي هذا يقول الفرنسي غودو: “مما لا شك فيه أن الفرنسيين فيهم آلاف الماسونيين الذين يترددون على المحافل الماسونية ويدافعون عن أفكار الصحف الماسونية، التي لها تأثير قويّ على الرأي العامّ وعلى الناخب الفرنسي.. إنها صور جعلت البرلمان الفرنسي يخضع، على الدوام، لإرادة الماسونية العالمية، التي تكتلت ضد دوغول وأسقطته من أعلى درجات مجده لا لشيء إلا لأنه قال “لا” لاسرائيل”... لقاء الملك فيصل يروي معروف الدواليبي في مذكراته تفاصيل الاجتماع الذي جمع بين دوغول والملك فيصل وقرر بعده الجنرال منع السلاح عن إسرائيل ومعاداتها ومقاطعتها بسبب سياساتها “الهمجية” ضد الشعب الفلسطيني، قائلا “كان دوغول قد أعدّ مأدبة عشاء على شرف الملك فيصل حينما بدأ يقول له: أستسمحك يا صاحب الجلالة، إنكم تريدون أن تقذفوا بإسرائيل في البحر، رغم أنها أصحبت أمرا واقعيا، ولا يقبل أحد في العالم رفع وتغيير هذا الأمر الواقع، فأجابه فيصل قائلا: إنني أستغرب كلامك كثيرا، فهتلر احتل باريس وأصبح احتلاله أمرا واقعا، وكل فرنسا استسلمت إلا أنت.. فانسحبت مع الجيش الإنجليزي وبقيت تعمل لمقاومة الواقع، حتى تغلّبت عليه، وأستغرب الآن منك وأنت تطلب مني أن أرضى وأقتنع بالأمر الواقع، حيث الويل كل الويل للضعيف إذا ما احتله القوي.. وبدا يطالب بالقاعدة الذهبية، حيث مشروعية الاحتلال، إن فلسطين وطننا الأصلي وأنت تعلم أن اليهود جاؤوا إليها من مصر غزاة فاتحين وأحرقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال ولم يتركوا شيئا، حتى أحرقو حتى الحجر.. إنك لا تريد أن تعيد التاريخ إلى ثلاثة آلاف سنة، ولن تقبل بذلك أصلح خريطة العالم لمصلحة الرئيس.. إننا نريد منك أن تعيد النظر في اتفاقية تسليح إسرائيل، التي تقاتلنا وتُدمّر بيوتنا بأسلحتكم الفرنسية.. حينها وقبل أن يكمل الملك فيصل كلامه، أخذ دوغول يقرع الجرس، مستدعيا بوميدو وقال له، بلكنة غاضبة: الآن فهمت القضية الفلسطينية.. أوقفوا السلاح المصدر إلى إسرائيل، التي تحارب به الشعب العربي في فلسطين.. لن أسمح بحصول ذلك مطلقا، وكان ذلك قبل العدوان الثلاثي على مصر بثلاثة أيام فقط.. سقوط لقد سقط دوغول وهو ما يزال في ريعانه وعنفوانه، بعد أن تقمص العديد من الشخصيات التي كان على رأسها وصفه ب”بطل التحرير”، الذي شكّل طوق النجاة للفرنسيين الذين وصل بهم إلى بر الأمان، ونسي نفسه ولم يستطع الوصول بها إلى الشاطئ، بعد أن أغرقته الأيادي اليهودية، نتيجة سياساته ضد اليهود وسياستهم التوسعية التي قال بخصوصها إنه “من غير المقبول أن نعاديَّ، نحن الفرنسيين، 100 مليون عربي مقابل حفنة من اليهود، الذين ما لبثوا يتسترون وراء أعمالهم بالمكر والخداع، ينتشرون بسياساتهم كالسرطان.. إنني أعي جيّدا حجم الخسارة، لكنني أتمنى أن يأتيّ من بعدي رجل يعرف كيف يحرك أحجار الشطرنج لمصلحة فرنسا فقط وليس لمصلحة أي شخص آخر مهما كان الثمن”...