في مثل هذا اليوم، وقبل عشر سنوات، اندلعت أكبر أزمة سياسية بين المغرب وجارته الشمالية إسبانيا كادت تؤدي إلى مواجهة عسكرية وتعصف بكل اتفاقيات «الصداقة وحسن الجوار»، المُبرَمة بين البلدين. وأول أمس، أعلن وزير الداخلية الإسباني، خورخي فرنانديث دياث، في مدينة مليلية المحتلة عن قرار الحكومة الإسبانية إقامة «مركز ثابت للحرس المدني الإسباني» فوق جزيرة «إشفارن» في الجزر الجعفرية، التي يطالب المغرب باستعادتها إلى حظيرة الوطن الأم. وجاء تصريح دياث، المثير، دقائق قبل زيارته مدينة الناضور والحسيمة، حيث دخلها من معبر مليلية، الأمر الذي يعتبر سابقة من نوعها. لكن توقيت زيارة وزير الداخلية الإسباني إلى مليلية، وبعدها إلى المدينتين، والترحم على القتلى الإسبان في معركة «إيسلي» لم تكن، حسب المراقبين ،محض صدفة بل تزامنت مع ذكرى دخول الجنود المغاربة إلى جزيرة ليلى. «من صاحبة قطيع الماعز الذي يتواجد في الجزيرة؟».. كان ذلك سؤالا وجهه موظف في وزارة الخارجية الإسبانية للإدارة العامة للحرس المدني الإسباني أشهرا قبل اندلاع الأزمة. وجاء جواب مدريد مقتضبا جدا: «صاحبة القطيع امرأة تدعى رحمة العشيري، وهي مواطنة مغربية تنتقل كل يوم إلى الجزيرة».. أسابيع قليلة بعد ذلك، سيصبح اسم رحمة مقترنا بشكل مباشر بالنزاع باعتبارها صاحبة قطيع الماعز الذي كان يتواجد على الصخرة أثناء اندلاع «الصراع» المغربي -الإسباني حول الصخرة. توفيت «رحمة قبل ثلاث سنوات، بعدما لم تعد تستطيع النطق بسبب إصابتها بشلل نصفي»، لكن أهالي بلدة بليونش ما يزالون يتذكرون الكثير من وقائع نزاع جزيرة ليلى وما خلّفه النزاع لرحمة من ضياع لأكثر من 22 عنزة كانت تتاجر فيها وفي حليبها لكسب لقمة عيشها.. «لقد كانت تلك ضريبة الحرب»، حسب إحدى جارات رحمة العشيري. تداول العالم كله، حينها، اسم رحمة، التي كانت تبلغ من العمر78 سنة، خلال احتقان أزمة الجزيرة بين المغرب وإسبانيا، خصوصا بعدما قررت مقاضاة الحكومة الإسبانية بخصوص مقتل رؤوس الماعز التي كانت تمتلكها أثناء النزاع حول الصخرة.. «قد تكون ماتت بسبب العطش أو أفزعتها ضوضاء طائرات الهليكوبتر الإسبانية، مما جعلها تقفز في مياه البحر.. يقول محمد، وهو أحد أبناء المنطقة. على بعد مرمى حجر من منزل رحمة، تمتثل أمامك شامخةً جزيرة «تورة»، كما يحلو لسكان بليونش تسميتها. «لقد أصابنا خوف وهلع كبيران أثناء اشتداد الأزمة بين المغرب وإسبانيا، خصوصا بعد رؤيتنا سفنا حربية وغواصات وكل تلك القطع البحرية»، تقول إحدة السيدات.. وقبل يوم من اجتياح الإسبان للجزيرة، هاتفت آنا بلاثيو، وزيرة الخارجية الإسبانية، حينها، بلاثيو، السفير الإسباني في الرباط، قائلة له: «لقد قررنا أن تعود فورا إلى الوزارة»، دون أن تقدم له أي شروحات إضافية. وفي الثانية فجرا، وصل السفير أرياس سالغادو، على متن سيارته، إلى مدينة تطوان، حيث كانت المخابرات المغربية تتعقب خطواته، وفق ما أشار إليه، حينها، والي تطوان محمد غرابي، الذي قال في أحد تصريحاته: «لقد تخوفت من أن تنطلق الشرارة خلال ساعات سوف». أما في بليونش فقد زاد خوف كل سكان القرية الهادئة لحظة رؤيتهم طائرات الهليكوبتر تنزل فوق الجزيرة، كانت بمثابة حرب حقيقية. أصبنا بذعر شديد ونحن نرى كيف كان الجنود الإسبان يصوبون فوهات رشاشاتهم في اتجاهنا بالضفة الأخرى. لقد قررت الحكومة الإسبانية في فجر ذلك اليوم إعطاء الضوء الأخضر لتدخل عسكري حقيقي، حيث انطلق من إسبانيا سرب يتكون من سبع طائرات دقائق بعد الرابعة فجرا، وعلى الساعة السادسة كانت تعبر سماء مضيق جبل طارق. ثمان عشرة دقيقة بعدها، شرعت في التحليق ثلاث طائرات من نوع «كوغار»، وعلى متنها 21 عنصرا وثلاثة أفراد من قوات التدخل الخاصة للجيش.. «حلقوا فوق الجزيرة برهة من الوقت لاستكشاف الوضع، لكنهم، ورغم سرعة الرياح القوية، بدأ الجنود الإسبان في النزول إلى الجزيرة»، يتذكر محمد، وهو ابن المنطقة، مضيفا أن ثلاث طائرات هليكوبتر أخرى بقيت تحوم حول الجزيرة: «لقد كانت هناك بهدف حماية المتدخلين»، يتذكر مصدر عسكري إسباني وفق ما قال ل»المساء»، فيما يقول محمد إن «أحدهم أخذ يتحدث عبر مكبر للصوت، طالبا من الجنود المغاربة، بالعربية والفرنسية والإسبانية، تسليم أنفسهم». بعد ذلك، ستقوم إسبانيا باعتقال وتقييد الجنود المغاربة وتغطية رؤوسهم بأكياس بيضاء وتسليمهم إلى المغرب عبر معبر باب سبتة: «ما يزال صديقي يتذكر إهانات الجنود الإسبان لهم»، يقول هشام، وهو زميل دراسة وصديق لأحد الجنود الستة الذين طردوا من الصخرة. كانت عائلة المرحومة رحمة العشيري تقف شاهدة حينها على كل الأحداث، وكل اهتمامها منصب على مصير قطيع ماعزها، الذي لم تعد تعرف شيئا عنه: «لقد زارتنا زليخة ناصري ووعدتها بمكافأتها، لكنْ وإلى حدود اليوم، لم تحظ والدتي بأي مكافأة من طرف الدولة، عكس الوعود المقدمة لها حينها».. تقول إحدى بنات رحمة، متحسرة، في حديث سابق لها مع الجريدة. أياما بعد ذلك، «سينصاع» المغرب وإسبانيا إلى توجيهات كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية، كولن باول. انسحبت إسبانيا من جزيرة ليلى، فيما انتقلت وزيرة الخارجية آنا بلاثيو إلي العاصمة المغربية لبدء مفاوضات لإعادة الأوضاع إلى مجراها الطبيعي، أما كولن باول فقد أعرب عن حسرته على «إضاعة» خمس ساعات من وقته في معالجة تطورات النزاع، قبل أن يأمر الطرفين بإعادة الوضع إلى ما كان عليه في السابق، واصفا الجزيرة ب»الصخرة التّافهة»..