في خضم الحراك الذي ما تزال تعرفه مصر، وصل، أول أمس، جثمان المفكر المصري أنور عبد الملك، الذي توفي منذ 12 يوماً في مستشفى بباريس، حيث أقام في السنوات الأخيرة، ومنها كان يرسل مقاله الأسبوعي في صحيفة «الأهرام» القاهرية. وقد عاد جثمان الراحل بفضل جهود جثيثة من المثقفين المصريين وتدخلات السلطة المصرية لدى نظيرتها الفرنسية، طالبة منها إعادة جثمان المفكر المصري إلى القاهرة. ظل أنور عبد الملك، الذي وافته المنية في باريس، حيث كان مقيما، الجمعة وإلى آخر أيامه، على تواصل مع قضايا مصر والعالم العربي، التي كانت محور اهتماماته الفكرية. ولد المفكر المصري في القاهرة في أكتوبر 1924، ودرس الفلسفة في جامعة عين شمس، ثم نال الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون في باريس، وعمل في المركز القومي للبحوث في مصر، كما كان محاضرا زائرا في عدة جامعات عربية وأجنبية، إضافة إلى عضويته في عدة هيئات وجمعيات علمية وأكاديمية، عربية ودولية. ونال عبد الملك «الميدالية الذهبية» من أكاديمية ناصر العسكرية عام 1976 و»جائزة الصداقة الفرنسية -العربية» عام 1970، كما فاز، في عام 1996، ب»جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية»، التي كانت أرفعَ الجوائز المصرية آنذاك. وحظيّ عبد الملك باحترام كبير منذ أصدر كتابه الأول «مدخل إلى الفلسفة» عام 1957، لتتوالى إصداراته بعد ذلك، ومنها «الجيش والحركة الوطنية»، «المجتمع المصري والجيش 1952-1970»، «الفكر العربي في معركة النهضة»، «نهضة مصر»، «ريح الشرق»، «تغيير العالم»، «الصين في عيون المصريين» و«الوطنية هي الحل».. تعرّف عبد الملك على شهدي عطية الشافعي، أحد أبرز المفكرين الماركسيين المصريين (اغتيل في سجون عبد الناصر في الستينيات) والذي كان المعلم السياسي الأولَ لعبد الملك. مع شهدي، التحق الراحل بأحد التنظيمات الشيوعية، لكنْ ألقي عليه القبض لمدة عام، قبل أن يهرب ويختبئ في منزل الفنانة الشهيرة تحية كاريوكا. تم إقصاء عبد الملك من اليسار، الذي أخذ ينظر إليه بريبة، خصوصاً بعدما بعث رسالة إلى عبد الناصر، مؤيداً المصالحة بين اليسار والثورة، كما اعتبرته بعض التيارات السياسية منظراً للاتحاد الاشتراكي. واعتُبر أنّه أدى في الخارج الدور الذي أداه هيكل في الداخل، وخصوصاً في كتابه «المجتمع المصري والجيش»، الذي تُرجِم في بيروت تحت عنوان «مصر.. مجتمع يبنيه العسكريون»، والذي نشرته دار الطليعة. وفي باريس، اتُّهِم، أيضاً، بأنه «الجاسوس المصري»، كما قال ساخراً. عمل أنور عبد الملك صحافيا فى «روز اليوسف» وفى جريدة «لوجورنال دو إيجبت» وفى جريدتي «الحقيقة» و«المساء» و«مجلة الإذاعة» و»المجلة»، من 1950 إلى 1959. كما شغل منصب مدير مكتب محمد حسنين هيكل عام 1970. منذ البدايات الأولى، كان أنور عبد الملك مهتما بهموم وطنه، وخاصة السياسية والاجتماعية منها، إضافة إلى تأكيده على أهمية الخصوصية والهوية والانتماء لتماسك الأمة العربية والإسلامية، مع رفضه دعاوى العولمة والانفتاح على الغرب من أجل التحديث واللحاق بالركب الحضاري، ودعوته إلى الانفتاح على الشرق. وقد اعتبر أنور عبد الملك أن الماركسية ليست فقط سلاحا من أجل التحرر الوطني والاقتصادي لبلدان العالم الثالث -حسب كتابه القومية والاشتراكية- ولكن من أجل التحرر الفكري من الهيمنة الثقافية الغربية كذلك. وبرزت ملامح التوجهات الفكرية والحضارية لأنور عبد الملك خصوصا في مؤلفاته «ريح الشرق» و«في أصول المسألة الحضارية» و«من أجل إستراتيجية حضارية». وانتقد عبد الملك الاستشراق منذ 1963، أي قبل سنوات طويلة من صديقه إدوارد سعيد. ونشر آنذاك مقالا عنوانه «الاستشراق في أزمة»، ربط فيه بين دراسات بعض المستشرقين والاستعمار، الذي كانت تلك الدراسات تمهيدا له. وقد أحدث المقال جدلا واسعا، كان بعض المستشرقين طرفا فيه، ثم جاء كتاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد «الاستشراق» عام 1978 ليضع أسس هذا العلم ويقول إن «الشرق شبه اختراع أوربي».