فجر النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية، الذي يقود التحالف الحكومي، عبد العزيز أفتاتي، قضية على قدر كبير من الخطورة في المغرب، مرتبطة بمبدأ الشفافية المالية ومراقبة المال العام بجميع أشكاله، سواء ذلك الذي يخضع للمحاسبة من خلال الخزينة العامة للمملكة أو الذي يمر عبر قنوات أخرى دون أن تطاله يد المراقبة المالية للدولة. بدأت القضية بشكل عادي من خلال مواجهة بين نواب حزب العدالة والتنمية وحزب التجمع الوطني للأحرار الذي يوجد في «المعارضة»، داخل مجلس النواب، عندما اتهم نائب الحزب الأول وزير المالية السابق ورئيس الحزب الثاني، صلاح الدين مزوار، بتلقيه 40 مليون سنتيم تحت الطاولة خارج القانون عندما كان يتولى المسؤولية الحكومية في عهد الحكومة السابقة التي كان يقودها الاستقلالي عباس الفاسي. على إثرها تقدم فريق العدالة والتنمية بالمجلس بطلب لعقد لجنة المالية والتنمية الاقتصادية من أجل مناقشة مراجعة أجور وتعويضات الوزراء ومسؤولي الإدارات العمومية، والتحقيق في الصناديق الخاصة، المعروفة أيضا بالصناديق السوداء، وعلى رأسها ثلاثة صناديق تابعة لوزارة المالية، وهي صندوق إدارة الجمارك، وصندوق الخزينة العامة، وصندوق إدارة الضرائب. وبصرف النظر عن المآل السياسي لهذه المعركة بين حزبين سياسيين، وسواء طوى الحزبان صفحة هذه المعركة أم لا، فإن نتائجها أصبحت اليوم تتجاوز هذه المواجهة الثنائية التي فضحت جانبا مهما من التدبير المالي لدى الدولة، ومشروعية ذلك التمييز الذي ظل متعارفا عليه عند جميع الحكومات المتعاقبة في المغرب، بين المال المصرح به الذي يخضع على الأقل لمساطر من شأنها ضمان الشفافية في حال إعمالها، وبين المال غير المصرح به الذي لا يخضع لتلك المساطر لأنه غير مصرح به وبالتالي غير معروفة وجوه صرفه. تعرف الصناديق السوداء بأنها «احتياطي الأموال، التي تكون في الغالب غير مشروعة، وتستخدم لتمويل أنشطة تكون في الغالب غير مشروعة كذلك، مثل منح رشاوى». وتوجد هذه الصناديق غير الرسمية وغير الخاضعة للقانون في جميع دول العالم، لأن الحكومات تلجأ إليها في عمليات تمويل أنشطتها غير المعلنة التي لا تخضع للمراقبة ولا للاعتراف بها، أو في تمويل بعض العمليات المشروعة مثل التصدي للأزمات أو الكوارث التي تتطلب نفقات مرتفعة وإجراءات سريعة دون اللجوء إلى المساطر القانونية البطيئة التي تعرقل أحيانا مثل تلك العمليات وتحول دون إنجازها في الوقت المناسب، كما تستخدم تلك الأموال السوداء في تقديم رشاوى للسياسيين أو رجال الأعمال لشراء مواقفهم، أو مكافأة مقدمي الخدمات، وغير ذلك من وجوه الصرف غير المصرح بها. ويرجع إنشاء هذه الصناديق، المسماة بالصناديق الخاصة، إلى عهد الحماية الفرنسية بالمغرب، وكانت تستخدم في مكافأة موظفي الدولة أو عمال الخزينة نظير خدماتهم في جمع وتحصيل المداخيل. وإذا كان إنشاء تلك الصناديق قد تم بموجب القانون إلا أن مبالغها ووجوه صرفها ظلت غير خاضعة للمراقبة المباشرة للحكومات والمؤسسات المكلفة بمراقبة المالية العامة في الدولة، وهو ما جعلها دائما محل انتقاد من لدن مختلف الفاعلين، خاصة أن وجود تلك الصناديق في أوقات الأزمات الاقتصادية والتقشف المالي للدولة يبرز مفارقة صارخة بين غنى تلك الصناديق وفقر خزينة الدولة، على افتراض أن الدولة لا تلجأ إليها في أوقات الأزمات مثلا بديلا عن اللجوء إلى الاستدانة. وقدرت بعض المصادر مبالغ الصناديق السوداء في المغرب خلال السنة الماضية بنحو 52 مليار درهم، بزيادة 13 بالمائة عن السنة التي قبلها، بينما يصل عدد تلك الصناديق إلى أكثر من سبعين. وقد أعادت الاتهامات الموجهة إلى وزير المالية السابق هذه الصناديق الخاصة إلى واجهة النقاش القانوني: هل هذه الصناديق قانونية أم غير قانونية؟، وبالنظر إلى أن تلك الصناديق منظمة بقانون إلا أن النقاش الذي ينبغي أن يثار اليوم هو النقاش السياسي حولها: هل يجوز لمسؤول حكومي أن يمد يده إلى تلك الأموال خارج التعويضات الرسمية الممنوحة له أم لا؟، لأن الظاهر أن هذه المسألة تبقى متعلقة فقط ب«ضمير» المسؤول الحكومي، في أي قطاع كان. وفي الوقت الذي ينادي فيه البعض بالتخفيض من الأجور العليا لدى بعض الموظفين السامين، ومن أجور المسؤولين بشكل عام، تطرح هذه الصناديق اليوم قضية مختلفة، وهي أن بعض المسؤولين لا يكتفون حتى بالأجور التي يتقاضونها، فيلجؤون إلى هذه الصناديق تحت ذريعة قانونيتها. لقد أكد الدستور الجديد على أهمية الربط بين المسؤولية والمحاسبة، وأكد كذلك على الشفافية في تدبير الشأن العام، ومن مظاهر الشفافية في هذا التدبير ترسيخ الشفافية المالية والحكامة. وقد بدأت أولى الخطوات في هذا الاتجاه التي ينبغي أن تكون المعركة الأخيرة مناسبة للاستمرار فيها مع وضع مدونة جديدة للأوقاف تقنن لأول مرة القواعد التي تضمن شفافية تدبير هذه الأوقاف وماليتها، والتي كانت في السابق تمثل صندوقا خاصا للوزارة، إذ صدر في شهر يونيو من العام الماضي ظهير جديد هو الأول من نوعه منذ الظهير المنظم للأحباس الذي صدر عام 1913، وهي تجربة يمكن القياس عليها من أجل ضمان حكامة جيدة لمالية الدولة.