يحوم شبح المتابعة القضائية حول ساركوزي بعد سقوط الحصانة الرئاسية عنه رسميا يوم الجمعة الماضي. اسم الرئيس الفرنسي السابق يحضر في أكثر من قضية اعتبرت بمثابة فضائح مالية، إحداها تشغل الرأي العام الفرنسي منذ 1995 وآخرها تتعلق باتهامات بتلقيه أموالا من العقيد الليبي السابق معمر القذافي لتمويل حملته للانتخابات الرئاسية لسنة 2007. أصبح الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، مهددا بقرار قضائي يسير في اتجاه تحريك مسطرة الاستماع إليه في العديد من القضايا، التي شغلت الرأي العام الفرنسي في السنوات الخمس التي تولى فيها قيادة الجمهورية الفرنسية الخامسة. وقالت وسائل الإعلام الفرنسية عن القضية المثيرة للجدل المتعلقة بثروة وريثة شركة «لوريال» ليليان بيتونكور، إنما تتصدر قائمة هذه القضايا التي ينتظر أن يستمع فيها القضاء الفرنسي للرئيس السابق بعد سقوط الحصانة عنه في أجل أقصاه الجمعة الماضي على أبعد تقدير، وفق القوانين الجاري بها العمل في فرنسا. التشريعات الفرنسية تنص على أن الحصانة الرئاسية تسقط عن الرؤساء المنتهية ولايتهم بمجرد مرور شهر كامل على تسليمهم مقاليد الحكم إلى خلفهم. فقد كان نيكولا ساركوزي محميا منذ انتخابه رئيسا لفرنسا في سنة 2007، بموجب الدستور الفرنسي، من أي استماع أو تحريك مسطرة للمتابعة القضائية، غير أن قضاة التحقيق لم يترددوا طيلة ولايته في تحريك متابعات قضائية في حق مقربين من الرئيس السابق، وهو ما أدى وقتها إلى بروز نوع من التشنج في العلاقات بين الجهاز القضائي وساكن الإليزي. ويتوقع خبراء أن يؤدي تحريك مسطرة الاستماع إلى الرئيس السابق في بعض القضايا، التي شغلت الرأي العام الفرنسي في عهده، إلى إعادة إثارة النقاش من جديد حول الإطار الجنائي الذي يؤطر عمل رئيس الدولة. فقد سبق للرئيس الحالي، خلف ساركوزي، فرانسوا هولاند، أن عبر عن نيته إصلاح هذا الإطار ووعد بأن يجعله أقل حماية للرئيس. ومن غرائب الصدف أن الرأي العام الفرنسي انتظر حكما من محكمة النقض بهذا الشأن الجمعة الماضي أيضا، بالتزامن مع حلول أجل سقوط الحصانة الرئاسية عن الرئيس نيكولا ساركوزي. ومعلوم أن نيكولا ساركوزي قرر الانسحاب من الحياة السياسية لبلاده مباشرة بعد هزيمته في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة أمام المرشح الاشتراكي، فرانسوا هولاند. وكان ساركوزي أكد في آخر تصريحات إعلامية له، قبل أن يركن إلى الصمت، أنه سيفكر مليا حتى شهر شتنبر المقبل في طبيعة الأنشطة والأعمال التي سيركز عليها جهوده مستق بلا. وفي الوقت الذي لاذ فيه ساركوزي إلى الصمت، رفض المقربون منه الإدلاء بأي تعليق على رهان الجمعة الماضي، المتمثل في سقوط الحصانة الرئاسية عنه ووجود احتمالات تحريك الاستماع إليه قضائيا في العديد من القضايا التي أثارت الجدل في عهده. وقد كان ساركوزي حريصا في تصريحات صحافية سابقة على نفي مزاعم خصومه المتهمة إياه بالتورط في بعض الفضائح المالية، خصوصا قضية «بيتانكور». المثير أيضا أن إيقاع التحقيقات التي تتعلق بالقضايا التي يثار فيها اسم ساركوزي ارتفع بشكل ملحوظ في الأسابيع القليلة الماضية. في قضية «بيتانكور»، المديرة السابقة لثروة الملياردير باتريس دو ميستر، التي وضعت في 23 مارس الماضي رهن الاعتقال بتهمة «استغلال النفوذ والابتزاز والنصب والاحتيال»، يرد اسم ليليان بيتانكور في خانة الأثرياء، الذين قاموا بتقديم دعم مالي لحملة ساركوزي الرئاسية في سنة 2007. وقد ذكرت تقارير صحافية فرنسية أن الرئيس الفرنسي السابق التقى يوم الجمعة الماضي أفرادا مقربين من «بيتانكور» من أجل التباحث معهم حول سبل طي هذا الملف. غير أن محاولات نيكولا ساركوزي ومعاونيه ذهبت أدراج الرياح بعد أن انتهى اللقاء دون التوصل إلى اتفاق بخصوص سبيل لطي ملف هذه القضية وإبعاد نيرانها عن حطب ساركوزي. يشار أيضا إلى أن هذه القضية، التي تصفها الصحف الفرنسية ب»الفضيحة»، أطاحت كذلك بأسماء أخرى من قبيل إريك وورث، أمين مال حملة ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2007، وكان بدوره وزيرا. ومن حسن حظ ساركوزي أنه لا شيء يدل إلى حدود الساعة بالقرائن والحجج على تسلمه أموالا بالملايين، نقدا، من «بيتانكور». غير أن الشكوك تحوم حول الزيارة التي قام بها ساركوزي نفسه إلى بيت بيتانكور في فبراير 2007 في وقت بلغت فيه حملته الممهدة للانتخابات الرئاسية الفرنسية لتلك السنة أوجها. لا يمكن لساركوزي أن ينفي تلك الزيارة التي قام بها لآل بيتانكور. فقد كانت مندرجة في أجندة أنشطة حملته الرئاسية، غير أنه ظل يؤكد في السنوات الماضية تكرار الكلام نفسه الذي صرح به عقب مغادرته منزل آل بيتانكور. يعتبر ساركوزي هذه الزيارة المثيرة للشكوك من وجهة نظر خصومه: «زيارة عادية، لأن أندري بيتانكور كان وقتها عضوا في البرلمان عن اليمين الفرنسي». وفي انتظار انجلاء جميع المعطيات المتعلقة بهذه الزيارة وكشف مدى علاقتها بالبحث عن الأموال الكافية لتمويل حملة الانتخابات الرئاسية 2007، فإن القاضي جون ميشال جونتيل حرك مسطرة البحث والتقصي ونفذ مسطرة الحجز في حق حسابات حملة ساركوزي في انتخابات 2007 وأمر الشرطة الفرنسية بالاستماع للممولين في شأن مصدر الأموال الممنوحة لساركوزي وقيمتها وأسلوب تسليمها له. هناك أيضا قضية أخرى تقض مضجع ساركوزي لا تقل أهمية عن قضية «بيتانكور». إنها قضية «كراتشي». قاضي التحقيق رونو فان ريومبيك يفترض أن ساركوزي علم ولم يحرك ساكنا بخصوص وجود توافقات على هامش اللجنة المشكلة بمقتضى القانون للإشراف على عميلات بيع غواصات لدولة باكستان بقيمة 84 مليون أور وفرقطات للمملكة العربية السعودية لا تقل قيمة صفقتها عن 200 مليون أورو في تسعينيات القرن الماضي. ويشتبه القاضي نفسه في أن المبالغ المتأتية من خرق القانون في هذه الصفقات تم توجيهها إلى تمويل الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي اليميني إدوار بالادور في سنة 1995. ما علاقة ساركوزي بذلك؟ الرئيس الفرنسي السابق كان وقتها الناطق الرسمي باسم إدارة حملة بالادور. شبح آخر يطارد ساركوزي في أسابيعه الأولى خارج قصر الإليزي، ويتمثل في اعتقال رجل الأعمال زياد تقي الدين، المقرب من اليمين الفرنسي، بعد اتهامه بالتورط في هذه الخروقات. كما تم إلقاء القبض على شريكه عبد الرحمن العسير بالديار السويسرية في 30 ماي الماضي. وينتظر أن ينتقل القاضي الفرنسي سالف الذكر إلى سويسرا من أجل الاستماع للعسير في هذه القضية. كما ان صديقين لساركوزي، هما تييري غوبير ونيكولا بازير، وكانا شاهدين على زواجه من كارلا بروني، يوجدان حاليا رهن الاعتقال على ذمة القضية ذاتها. ويحضر اسم ساركوزي في هذه القضية بصفته وزير الميزانية بين سنتي 1993 و1995، وهو ما يحتم الاستماع إليه في هذه القضية للكشف عن تفاصيل تفويت العتاد العسكري سالف الذكر ومصير الأموال المتأتية من خرق القوانين الجاري بها العمل في صفقات بيع الأسلحة. وعلى هذا الأساس، بات نيكولا ساركوزي أقرب من أي وقت مضى إلى تصدر عناوين الصحف الفرنسية في قضايا تنبعث منها رائحة الفضائح المالية. إذ صارت متابعته من قبل محكمة العدل الجمهورية وشيكة، علما أن هذه المحكمة هي الهيئة القضائية الوحيدة التي يخول لها القانون متابعة الوزراء عن الخروقات التي يمكن أن يرتكبوها أثناء مزاولتهم مهامهم الوزارية. غير أن الرئيس الحالي أكد أنه يعتزم إلغاء هذه المحكمة، وهو ما يعني أن ساركوزي قد يضطر إلى المثول أمام القضاء العادي. فهل يكشف القضاء الفرنسي عن تفاصيل هذه القضية، التي سبق أن قال عنها ساركوزي نفسه في أكتوبر 2011 ما يلي: «لن يخرج منها إلى العلن أي شيء مهما بذل من جهود من أجل كشف ملابساتها، والجميع يعلم هذا الأمر»؟. وينتظر أن يثير القضاء أيضا مع ساركوزي قضية ثالثة أثيرت خلال حملته الانتخابية الأخيرة، وتتعلق باتهامات له بالحصول على أموال من القذافي، علما أن ساركوزي استبق توجيه استدعاء له في هذه القضية وبادر بنفسه إلى إيداع شكاية في الموضوع لدى القضاء الفرنسي.