بين الحس الفطري والتقدير السياسي ثمة بون شاسع يؤكده الوضع الراهن للثورات العربية الذي يكشف حالة التشوش الذهني الناجمة عن غياب العمق المبدئي لدى محترفي السياسة ضمن الأطر الإدارية القائمة. إنه حال لا يختلف كثيرا عند مقاربته مع مسألة الإيمان المؤسس على الفطرة وذلك القائم على أسس التنظير والفلسفة، فالأول يقود عادة إلى إيمان عميق لا تشوبه تفرعات المنطق وعلم الكلام، ولا يتداخل فيه منطق «المصلحة» مع مقولة الإيمان المطلق التي تقتضيها الفطرة. ثورات الربيع العربي انطلقت في أغلبها بأعواد ثقاب لحظية اشتعلت في بيئة مشبعة بالوقود الناجم عن عقود من الاستبداد والظلم والإقصاء والفساد، فاستطاع السابق منها قطع أشواط بعيدة لأنها فاجأت القوى المتربصة بالأمة ضمن ما عرف لاحقا بقوى الثورة المضادة. أما التي تأخرت في انطلاقها فقد وقعت ضحية تآمر تلك القوى وتدخلاتها التي أجلت حسم مسارها بمحاولات الالتفاف أو الإجهاض أو الاحتواء أو هندسة النتائج وصناعة «أبطال» وهميين لقيادتها؛ فلم يكن شباب تونس، الذي ربط حادثة الشهيد محمد بوعزيزي بواقعه السياسي الذي هيمن عليه زين العابدين بن علي وعصابته، مستعدا لتضييع وقته في الحسابات السياسية المعقدة أو الدخول في مساجلات حول التوازنات السياسية الإقليمية أو الدولية، بل انطلق بدوافع غريزية دفعته إلى التصدي للظلم والتضحية لإزالة أسبابه بعيدا عما تريده الدول المتحالفة مع النظام الديكتاتوري. وانطلقت ثورة مصر على أسس شبيهة، وكذلك الثورات الأخرى اللاحقة. كانت الانطلاقات متشابهة في الظروف والأهداف والوسائل، وبعيدة في الأساس عن التلوث النفسي والفكري والقيمي الذي فرضته قوى الثورة المضادة لاحقا ولوثت به أجواء الربيع. وبدلا من دعم النمو الطبيعي لأشجار الحرية التي روتها دماء شهداء تلك الثورات، سعت إلى تسميمها بالأسمدة الكيماوية التي دمرت ثمارها وأحالت نضارتها إلى أوراق خريف تتساقط وتوحي بانتهاء حياتها الطبيعية واستبدالها بأشجار بلاستيكية بلا روح أو نضارة. وبعد عام ونصف من تلك الثورات أصبح من الضروري دق الأجراس للتنبيه إلى الأخطار المحيطة بالثورات ليس كمشاريع للتغيير السياسي، بل كطريق لنهضة كاملة تعيد الأمة إلى طريق التجديد والبناء والحضارة. من الضروري أن يعي شباب الثورات أهمية استعادة المبادرة على طريق التغيير الشامل، وعدم السماح بإعادة القضية إلى دوائر السجال حول مقولات «الواقعية» و«التوازنات الإقليمية والدولية» أو الحديث عن الإمكانات المتوفرة أو إحالة التغيير إلى القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية على الصعيد الدولي، وإلى السعودية أو أية دولة أخرى من دول مجلس التعاون الخليجي في الدائرة الإقليمية. وثمة خشية من أن تكون الانطلاقة الفطرية النقية قد وقعت في بعض الحالات في شراك الحسابات السياسية وإخضاع التغيير للمقولات المذكورة، فتستحيل الثورات إلى احتجاجات لا تختلف كثيرا عن ثورات الخبز التي وقعت في الثمانينيات في تونس ومصر والأردن والمغرب. كانت تلك الانتفاضات فورية نجمت عن أوضاع معيشية قاسية. وكان بالإمكان أن تتحول، في أجواء الصحوة الإسلامية التي ترعرعت في ظروف الثورة الإسلامية في إيران، إلى «ربيع عربي» مبكر، ولكن حالت قوى الثورة المضادة يومها دون ذلك. وبانتصار ثورة تونس والانتصار الذي كان وشيكا لثورة مصر، كادت رياح الثورة تشمل كافة دول العالم العربي من شرقه إلى غربه، لولا تصدي قوى الثورة المضادة لما اعتبرته «التحدي الأكبر» الذي يواجهها والذي طرح أمامها واحدا من خيارين: أن تكون أو لا تكون. إن الثورة نهضة شعبية فورية لا تخضع لقواعد الإعداد أو الحساب السياسي أو التخطيط الدقيق، بل يعتمد نجاحها على مدى حماس الشباب الثائر واستعداده للتضحية في مقابل عدو غاشم يشعر بأن أيامه معدودة وأن البطش هو الخيار الوحيد أمامه. فإذا ترك الأمر لشباب الثورة فإن دماءه قادرة، في كل الأحوال، على هزيمة الديكتاتورية والاستبداد وما تمارسه من بطش. ولكن إذا سمح لقوى الثورة المضادة بالتدخل بأي شكل فقد انتهت الثورة كمشروع تحرري جاد. وهنا تتصارع الأفكار والأولويات، خصوصا لدى «المفكرين» و«السياسيين» الذين ينطلقون على أساس «المنطق» و«الحسابات السياسية» و«الاستخدام الجيد لأوراق الضغط»، وهي جميعا مصطلحات شائعة في عالم السياسة والعمل ضمن الأطر القائمة؛ فهؤلاء لا يستطيعون استيعاب «المنطق الثوري» الذي لا يضع اعتبارا لتلك الأبعاد، فمن يسمح لنفسه بمواجهة نظام عتيد يهيمن على إمكانات الدولة كافة ويسخرها لحمايته وليس لحماية الدستور والشعب، لا يبدو منطقيا أو عاقلا لدى التيار السياسي الذي تعمقت لديه القناعة بأن «يجب أن يكون الحل سياسيا»، فعناصر الثورة لا تخضع حساباتها للمنطق الرياضي، بل تطرح رؤى قد تبدو شاذة لأصحاب المنطق والحساب؛ فمن يسعى إلى التغيير عن طريق الثورة يسمح لنفسه بمواجهة الدبابة عاري الصدر، ويصمد في الشارع متحديا الجيش المدجج بالسلاح. وإذا أصدر الديكتاتور قرارا بمنع التظاهرات ازداد حماسا للتظاهر، ورفض الانصياع للقرارات الرسمية. هذا منطق يختلف عن المنطق السياسي، ولكنه يبدو للكثيرين «مجنونا» و«متهورا» و«غير منطقي». وقد توجه إلى أصحابه اتهامات بكونهم «يقودون البلد إلى داهية». وهنا تتحول القضية إلى صراع إرادات، فيخسر الذي تنكسر إرادته قبل الآخر. إن سقوط الشهداء والضحايا لا يكفي لكسر شوكة «الثوار»، فهؤلاء يرون في الدماء التي تهدر في ما يعتبرونه «معركة كرامة» وقودا ضروريا للثورة، ويزدادون صمودا وصلابة كلما ازداد النظام شراسة. ينظر هؤلاء «الثوار» إلى الواقع السياسي بأنه مستنقع يجب إزالته بكافة الوسائل لأن الشعب كله ضحية جراثيمه وأمراضه الفتاكة. يرى هؤلاء أن النظام الديكتاتوري يستعصي على الإصلاح، ويسوقون من التاريخ الغابر والمعاصر أمثلة على صراع الإرادات بين قوى التغيير وأساطين السياسة وطغاة البلدان، ليستنتجوا أن الديكتاتورية لا يمكن إصلاحها، بل يجب اقتلاعها. إنه منطق كثيرا ما يصطدم مع القوى السياسية التقليدية التي استطاعت التطبع ضمن أطر الأنظمة السياسية معتقدة أن لديها أوراقا للضغط على النظام تجعله يقدم بعض التنازلات. الثوار يعتقدون أن أوراق الضغط السياسية كلها بيد الديكتاتور، ولا مجال للدخول في معركة يستحيل كسبها باستعمال أدوات النظام؛ فالبرلمان، إن وجد، قد تم تصميمه لحماية النظام القائم وليس تغييره، وأجهزة الدولة تحميه تماما؛ فالقضاء بيد الديكتاتور، يعين قضاته ويوجههم لإصدار قراراته السياسية كأحكام قضائية ضد مناوئيه. ويعتبر هذا القضاء واحدا من أدوات قمع المعارضين لا تختلف عن السجن والتعذيب والقتل. وأجهزة الشرطة والأمن والاستخبارات كلها موجهة لحماية النظام الديكتاتوري الذي قد يكون لديه دستور تمت صياغته بالمقاسات المناسبة له، وليس للشعب دور في صياغة مواده. والإعلام هو الآخر وسيلة لقمع الرأي الآخر وحصر دائرته بالديكتاتور ودوائره الضيقة، فلا صوت يعلو فوق صوت الاستبداد. الثورة الناجحة هي التي تقتلع النظام الديكتاتوري كاملا ولا تحصر التغيير ببعض رموزه كالرئيس مثلا، كما حدث في تونس ومصر واليمن. كانت ثورات تلك البلدان جميعا مهيأة لتحقيق تغيير جوهري شامل، ولكن تلكؤ القوى السياسية في دعم الثورة وإعلان التمرد على النظام السياسي أضعف الحراك الثوري وفتح المجال أمام قوى الثورة المضادة للتدخل، أما خلال الثورة أو بعد التخلص من رموز النظام السابق، كما حدث في مصر. الثورة ورموزها يملكون شجاعة التصريح بمن يعتبرونه من معوقات التغيير وداعمي النظام القائم ورافضي التغيير الشامل. ولذلك يصرحون علنا برفضهم تدخل تلك الجهات في شؤون بلدانهم. بينما ترى القوى السياسية التقليدية آن المنطق السياسي يقتضي «طمأنة» تلك القوى واسترضاءها وإظهار قدر من «الاعتدال» والابتعاد عما يمكن اعتباره «تطرفا». تبدو هذه الاعتبارات منطقية، ولكنها تساهم في إضعاف روح الرفض في نفوس شباب الثورة، وتساهم في التطبيع مع القوى الخارجية الرافضة للتغيير. وبهذا، يسهل اختراق الوضع وتوجيه مسار التطورات، وتسهيل مهمة اختراق صفوف الثورة والثوار باستمالة بعضهم وتمويله لاستلام المناصب السياسية بعد تحقيق «الإصلاح» المزعوم بإزالة بعض رموز الحقبة الديكتاتورية. وحتى الآن ما يزال الكثيرون محجمين عن إعادة فتح ملفات الربيع العربي بشكل مكشوف وصريح لاستيضاح مواقع الخلل في المسيرة التي تخللها سفك دماء الشهداء رخيصا واعتقال الآلاف وتعذيبهم، فيما اكتفت قوى الثورة المضادة بالتفرج في أحسن الأحوال والتدخل السري أو العلني لحماية الأنظمة الاستبدادية في أغلبها. وسعت كثيرا إلى استغباء الثوار بحصر الفساد في شخوص معدودين وليس في النظام نفسه.