«خديجة ح.» أم لطفلة، زراتها «المساء» في بيت أسرتها، في منطقة سيدي علال البحراوي (الكاموني) في ضواحي مدينة الرباط، حيث تقطن في بيت متواضع.. عاشت خديجة قصصا ومغامرات مؤثرة في ليبيا، في عز الثورة، فبعد طلاقها من زوجها، غادرت المغرب متجهة إلى ليبيا، بعد حصولها على عمل لدى جنرال كان من المقرَّبين من معمر القدافي والعارفين بخبايا حياته. يدعى «ب. م»، وقد كانت خديجة تشتغل في مجال الطبخ، رفقة صديقة لها. تقول خديجة، وهي تستعيد الزمن، وكأنه توقف عند هذه الأحداث، لتصف ما عاشته في زمن القذافي من محنة وعذاب، ذاقتهما في ليلة القصف التي لم فيها تر عيناها النوم، فحاولت الهروب من الفيلا الفاخرة التي تعمل فيها، والتي يطلق عليها في الأوساط الليبية «الحُوش»، وتوجد بمقربة من الكتابة الخاصة للقدافي، أي أنها تقع في موقع حساس أضحى مستهدَفاً من قِبَل الثوار.. غير أن الجنود الذين اختبؤوا داخل «الحُوش» منعوها من مغادرة التراب الليبي، قبل أن تقول لها زوجة الجنرال: «الدخول إلى ليبيا ليس هو الخروج منها».. فاحتجزوها هي وصديقتها المغربية، التي تعمل لديهم كمنظفة، ووزعوا الأسلحة بمختلف أنواعها على كل المتواجدين في الحوش. تجنيد إجباري مقابل 2000 درهم حديث خديجة عن حياتها في ليبيا، وهي تتحدث إلى «المساء»، دفع أفراد عائلتها الصغيرة إلى الإصغاء إليها باهتمام، وكأن تلك أولَ مرة تكشف لهم عن بعض الحقائق المثيرة، قبل أن تهمس بصوت خافت يكاد لا يُسمع، متحدثة عن وجود بعض الجوانب التي لا تريد إثارتها أمام أسرتها.. ثم واصلت حديثها، قائلة إن جنود القذافي وأبناء الأخير وأسرته الصغيرة والكبيرة قاموا بتغيير لوحات ترقيم السيارات التابعة لنظام القذافي، بسرقة لوحات سيارات مواطنين، خاصة تلك التي تعود إلى ملكية أبناء الجالية، في محاولة منهم إخفاء هويتهم.. قالت خديجة إنهم كانوا يخرجون ليلا لقتل الثوار، دون أن يتعرف أحد على هويتهم، في حين أن كل المتواجدين في فيلا الجنرال تم تجنيدهم وأعطيت لهم بذلات عسكرية وأسلحة ثقيلة وتم إجبارهم على الخروج إلى ساحة القتال وتقصّي الأخبار، دافعين بهم إلى الواجهة.. أما خديجة فقد تم تكليفها بمهمة مراقبة إحدى أسوأ البؤر في «باب العزيزية».. لم ترفض تنفيذ التعليمات التي أعطيت لها، خشية أن يكون مصيرها القتل بالرصاص الحيّ، الذي أصبح منتشرا في كل مكان، إلا أنها اشترطت عليهم تكليف شخص آخر بمرافقتها إلى ساحة القتال، خاصة أنه لم يسبق لها أن حملت سلاحا أو دخلت في مواجهات قتالية.. غير أن إصرار زوجة الجنرال وخوفها من أن يتعرض الحوش بمن فيه للقصف، اشترطت على خديجة أن تنزل إلى «باب العزيزية» لوحدها، مقابل مبلغ 2000 درهم في اليوم. بعد صمت، واصلت خديجة كلامها قائلة إنها لم تنس مشهدا مؤثرا أفضى إلى قتل ثلاثة من مرافقي القذافي على يد الجنرال الذي كانت تشتغل لديه، والذين كانوا يعتبرون بمثابة «العلبة السوداء» للزعيم الليبي، وهم السائق الخاص وحارساه. عندما علمت خديجة بالأمر، طلبت من زوجة الجنرال أن تدعها تغادر الأراضي الليبية إلى أن «تهدأ» الثورة، إلا أن الزوجة رفضت بشدة واستفسرتها عن سبب رفضها البقاء معهم، إلى درجة أنها شكّكت في أن تكون معارضة لنظام القذافي.. بعد هروب زوجة الجنرال وأبنائها إلى تركيا، بقيت خديجة بمعية الجنرال والخدم داخل «الحوش»، فطلبوا من أحد التونسيين أن يأخذهم إلى تونس، ليغادروا ليبيا في وقت باكر من أحد الأيام.. لدى وصولهم إلى الحدود الليبية، منعتهم السلطات الليبية من مغادرة أراضيها وطلبت منهم المبيت في مخيّمات اللاجئين في انتظار أن تتدخل الدولة المغربية لإجلائهم. رفضت خديجة ذلك، مخافة تعرضها للاعتداء والاغتصاب داخل المخيّمات، التي وصفتها بأنها تنعدم فيها «الأخلاق»، قائلة «شي كياكْل شي».. دون الحديث عن تعرض النساء للاغتصاب، بل وحتى الرجال أنفسُهم كان يتم اغتصابهم هناك!.. لم يتردد الجنرال في أخذ خديجة والخدم إلى بيت في ملكيته في الحدود الليبية -التونسية، كان عبارة عن شقة مكونة من طابقين، حيث قضوا فيها يومين. ولم يأت عدم فرار الجنرال من فراغ. قالت خديجة إنه كان منشغلا بتهريب النقود التي في حوزته وكل المجوهرات التي تركتها الزوجة وجميع الوثائق والأوراق وغيرها.. العودة.. معاناة أقسى من الحرب بعد النجاة من الموت إبان القصف وتبادل النار بين الثوار، الذين كان معمر القذافي قد وصفهم ب«الجرذان»، وبين الموالين للنظام، كانت خديجة ترى المغرب «جنة فوق الأرض»، سيستقبلها ب«الأحضان يا وطني».. على حد تعبيرها، لكنْ سرعان ما تبخّر الحلم عندما وجدت خديجة نفسها وحيدة، وكأنها «سقطت» من السماء بغتة.. انحبست الأنفاس، وكأن لحظة الفرج هي بداية النهاية، تنفست خديجة الصعداء وصمتت لحظة، لتسترجع أنفاسها، التفتت يمينا وشمالا، كان الجميع يبدون في عينها غرباء.. لم تنس خديجة لحظة واحدة من لحظات الحرب، بدءا من انهيار النظام وانتهاء بمعانقتها أرض الوطن، الذي «لم يعانقها».. في وقت كانت في أمسّ الحاجة إليه.. بعد استعادة أنفاسها، لم تتردد خديجة في طلب المساعدة من رجال الأمن الخاص داخل مطار محمد الخامس في الدارالبيضاء، الذين استحسنت جودهم وكرمهم، معبّرة عن استيائها من الدولة المغربية التي قالت إنها «تتبجح» بالجالية المغربية المقيمة في الخارج، عندما فقط يُدرّون عليهم العملة الصعبة، في مقابل غياب أي مبادرة تهمّ هذه الفئة، مستغربة تخلي الدولة عنهم في لحظة من المفروض أن تكون في حالة تأهب قصوى، على غرار ما هو معمول به في الدول الأخرى، التي «تتسابق» لإجلاء مواطنيها من أتون الحرب. فبعد نجاتها سالمة من موت محقق ودخولها أرض الوطن بخفّي حنين، وجدت نفسها مضطرة إلى البحث عن عمل بديل يعيل ابنتها التي احتضنتها والدتها في فترة تواجدها في ليبيا، فلم تجد إلا مقهى بسيط تقوم فيه بغسل الأواني، حتى لا تكون عبئا ثقيلا على أسرتها الفقيرة، واستغربت خديجة تجاهل الدبلوماسية المغربية أفرادَ الجالية، الذين فروا من الثورة الليبية، فوجدوا أنفسهم معزولين عن العالم. عندما دخلت مطار محمد الخامس لم تكن خديجة تتوفر لا على مال ولا على ما عداه، بل إن المكالمة نفسَها التي أجرتها مع عائلتها «استجدتها» من أحد رجال الأمن الخاص في المطار.. والأدهى من ذلك أنه بعدما ظل هاتف عائلتها يرن دون جواب، اضطرت إلى طلب يد المساعدة من أحد سائقي سيارة الأجرة الكبيرة لأخذها إلى بيت أهلها في «الكاموني» فطلب منها 800 درهم.. استعطفته بإسداء خدمة إنسانية إليها بعدما حكت له عن وضعها وأكدت له أنها فرت من الحرب، لكن السائق تردّدَ قبل أن يوافق على نقلها.. تتابع خديجة قائلة «حْتّى حاجة ما كايْنة فابورْ».. مفسرة أنه بمجرد ما خرجوا من المدار الحضري حتى بدأ السائق يتحرش بها جنسيا، مستغلا حاجتها إليه في جنح الظلام!.. قالت خديجة إن المسؤولين يتحملون في كل ما تعرضت له النصيبَ الأكبر، لأنه لو قامت الدولة بواجبها تجاه العائدين من الثورة، حسب قولها، لَما تعرضت للتحرش والتشرد، خاصة الوزارة المكلفة بشؤون الجالية المغربية المقيمة في الخارج، متابعة أن ما يحُزّ في النفس هو كونها «أمطرتهم» بوابل من الوعود دون الالتزام بما وعدت به أفراد الجالية، الذين عادوا وكلها فخر واعتزاز بوطنهم، قبل أن تتحطم الأحلام على صخرة واقع أسوأ مما كانوا يتصورونه، الشيء الذي دفع الكثيرين منهم إلى العودة رغم تأجّج الأوضاع.. وبخصوص ممتلكاتهم في ليبيا، تضيف خديجة أن مصيرها ما يزال «مجهولا» إلى اليوم، وإنهم ما يزالون ينتظرون ما ستقوم به وزارة الجالية المغربية لاسترجاع الممتلكات التي ضاعت منهم. أمراض وعقد نفسية ما تزال خديجة تعاني من أمراض نفسية بسبب ما عاشته في ليبيا، وتعيب على المسؤولين عدم تكليف لجنة طبية مكونة من أخصاء نفسانيين للسهر على مواكبة الصحة النفسية للجالية المغربية العائدة بعد انهيار نظام القذافي، لتخفيف معاناتهم وما عاشوه من مخلفات الثورة، خاصة أنهم يعانون من أمراض نفسانية تدفع الكثيرين منهم إلى استعمال الأدوية والأقراص المهدئة وجروح يصعب أن تندمل، دون الحديث عن «ضياع» السنة الدراسية لأبناء الأسر المغربية الذين يدرسون في «دول الربيع العربي»، خاصة ليبيا، التي تضم أكبر نسبة من المغاربة. تداريب قتالية أكد عدد من المغاربة العائدين من ليبيا بعد الأحداث التي شهدتها الأخيرة أن معسكر القذافي جنّد عددا كبيرا من المهاجرين، بمن فيهم المغاربة، في الفترة التي بدأت فيها إرهاصات الإطاحة بالنظام.. ويتذكر الكل خرجته التي كان قد قال فيها للثوار -أو من سماهم «الجرذان»- إنه سيحاربهم بالرجال والنساء والأطفال، حيث قام بتجنيد عدد من المغاربة والمصريين والأفارقة ومدّهم باللباس العسكري وبأنواع من الأسلحة. وقد تلقى أفراد الجالية المغربية، قبل ذلك، تداريب خاصة في فنون الحرب وفي كيفية استعمال الرصاص وفي غيرها من التقنيات للدفاع عن «الزعيم» الليبي، «الأسطورة التاريخية».. وأكدوا أن الأسلحة كانت حينَها في متناول الجميع، ما خلّف إصابات في صفوف الأبرياء، الذين لم يكونوا ينتمون إلى أي تيار مساند أو مناهض لنظام القذافي، البائد.
أم تتحسر على ابنتها في ليبيا والدبلوماسية المغربية في قفص الاتهام أثناء مقابلة «المساء» خديجة في بيتها المتواضع، لم تتردد أمها في مقاطعة ابنتها، بين الفينة والأخرى، علّ صوتها يصل إلى الرأي العام، وحرقة ابنتها إلهام، التي ما تزال «عالقة» في ليبيا إلى اليوم، لأسباب خارج عن إرادتها، تشكّل غصة في حلقها وقلبها أيضاً، حيث تزامنت ولادتها مع وفاة القذافي، فظلت أسرتها في المغرب تتحسر على فراق الابنة.. فمع كل خبرِ قصفٍ تصلها أخباره، تتخيل أم إلهام ومقتل ابنتها وأحفادها، وازداد الوضع سوءا عندما أصيب حفيدها وبعض أفراد عائلة زوج الابنة، فانقطعت عنهم كل أخبارهم. تحكي الأم، والدموع تنساب على خديها، وقد شدها حنين الشوق إلى ابنتها بعد فراق دام أربع سنوات.. تصمت لوهلة، قبل أن تتلعثم في كلامها، قائلة: «تعرضت فلذة كبدي للتشرد والضياع في الوقت الذي كانت تعيش فترة المخاض، إذ تمت مداهمة بيتها، من قبل أفارقة استغلوا الوضع المتأجج في ليبيا فاحتجزوا زوجها وبعضا من أفراد عائلته ونهبوا كل الممتلكات التي كانت تتوفر عليها».. وأضافت الأم أن الدبلوماسية المغربية لم تحرّك ساكنا ولم تتدخل لإنقاذ المغاربة وإجلائهم من ليبيا المشتعلة، بل اكتفت ب«التفرج» على مأساتهم، قبل أن تستطرد قائلة إن الخطير في الأمر هو أنه حتى الذين نجوا وتمكنوا من التسلل عبر الحدود والدخول إلى الأراضي المغربية لم يتلقوا أي مساعدات ولم يحظوا بأي اهتمام، عكس ما جرى بالنسبة إلى جاليات الدول الأخرى، العربية أو الأجنبية.
قنوات ممنوعة مباشرة بعد سقوط نظام القذافي في ليبيا، تغيرت الأوضاع في أوساط الموالين للزعيم الليبي، تقول خديجة إن كل الأجانب الذين يوجدون داخل «الحوش»، بمن فيهم المغاربة، كانوا محرومين من مشاهدة عدد من القنوات العربية، حتى لا يعرفوا أي جديد عن أخبار القذافي. كما أنهم كانوا يدفعون جميع الخدم إلى أن يُردّدوا معهم شعارات مؤيدة لنظام القذافي، من قبيل «حنا معاك يا معمّرْ.. واللّي عادانا يْتدمرْ»، وأيضا «هاك الرجال يا بُومنيارْ.. هات السلاح وخوذ الرجالْ»، قبل أن تقول إنها مجرد شعارت شكلية يردّدونها، وما إن انهار النظام حتى بدأت عمليات النهب والسرقة، بدءا بالمجوهرات وانتهاء بالوثائق والكتب وكذا الأسلحة.. التي تم ترحيلها إلى مكان لتخزين الذخائر، فتم دفن المجوهرات تحت الأرض، خشية أن تتعرض للإتلاف من طرف الغرباء، الذين كانوا يستغلون الأوضاع المشتعلة والمتأججة في ليبيا.. واستطردت خديجة: «لم يعد اسم القذافي يُذكر، وكأنه شخصية «وهمية» لا وجود لها على أرض الواقع، سرعان ما نُسيّت.. مشيرة إلى أن الكل كانوا يدافعون عن مصلحتهم الشخصية والآخرون مجرد «بقايا».. وكشفت خديجة، بكل تلقائية، أن زوجة الجنرال التي كانت تشتغل لديهم طباخة، كانت تكلّفها، رفقة مصري ومغربية أخرى، بتقصي الحقائق وإيصال «التبركيكة» إليها، من خلال التجسس على معارضين «النظام».