الثورة والتدويل، ثنائية لا فكاك من إسارها والتدويل أمر متحقق، سواء كان مع الثورة أو ضدها، وفي حين يريد «الربيع العربي» أن يفخر بخصوصيته أنه كانَ وليد ذاته، كان ولا يزال متفجرا من لحم إنسانه ومن رحم تراب أرضه، فإن العالم الخارجي ليس مستعدا لترك الأمم تصنع حاضرها بيدها. والربيع بات مهددا وهو في وطنه ليس بعدوه الداخلي وحده، بل معه أعداء آخرون ما وراء الحدود. وهؤلاء يصيرون هم الأخطر لأنهم يمثلون قوى وإمكانيات لا حد لها منظورا، سورية الثورة هي المقصودة اليوم كمدخل جديد لحراك دولي لئيم يستهدف مستقبل هذا الربيع في ساحاته المشرقية، المترقّبة والمنتظرة لجولاته المتتابعة في ربوعها واحدا بعد الآخر. ما يقال أن (الدوليات) منخرطة في لعبة نصب الأفخاخ التي تتقنها وتمارسها منذ ما سُمي بالمسألة الشرقية، أواسط القرن التاسع عشر؛ فقد نجحت معظم هذه الأفخاخ في اقتناص فرائسها. لكن الأمر صار مختلفاً مع ثورة الربيع، فهي لم تكن سليلة فخ دولي، لكنها مرشحة في مختلف أحداثها حتى الآن للتعرض إلى مصائدها. وأسوؤها ولا شك كان هو الانقلاب العسكري ثم تطوَّر إلى نسق الحرب الأهلية، وها هما معا اليوم يتربصان بثورات الربيع العربي. لكن لهذه الثورات رهاناتها الذاتية غير المعروفة، غير المكشوفة تماما لعقل الدوليات. هذا الجانب الغامض المبهم هو سر الحدث الثوري، وقد لا يتبيّنه الثوارُ أنفسهم، فكيف الأمر بالنسبة إلى أعدائهم. فإن أحدا من هذين الفريقين لا يمكنه أن يتنبّأ عما يُخبّئه كلُّ يومٍ تالٍ على كل يوم ثورةٍ ما. وإذا كان ثمة من يقينٍ ما في هذا الغموض، غير السلبي كله، فهو أن الحدث الربيعي ما إن يحتل شارعا حتى يصبح من سكانه الأصليين، يُدخل التغيير الفجائي على حياتهم، من حيث كونه يتغير هو عينه ما بين أفكاره وممارسته.. أقطار الانتفاضات العربية افتتحت لذاتها سياقاتٍ حركيةً لا يمكن قوْلبتُها في صِيغ نهائية من أفكار ومواقف ومؤسسات. كما أنه لا يمكن اعتبارها أو النظر إليها كظواهر عَرَضية أو باطلة أو عابثة، مجتمعات ما قبل الثورة كانت مستنقعات راكدة، كائناتُها غارقة تحت الطين والطحالب. بعد الثورة ينفجر المستنقع كأنه خضم عارم، تصير لكائناته حَيَواتٌ جديدة سابقة على التصنيف والتوصيف، وكل تعجُّل في طرح استراتيجيات لتسميتها قد يقع في خطيئة استبدال الأشياء بالأسماء. وهي فجيعة كل نظرية سابقة على الممارسة. من هنا ليس للثورة الحقيقية برنامج. هذه ليست نقيصةً بل امتيازا لها عن أشباهها التي حصدت أفكارُها الفشلَ الذريع قبل أن تحقق أفعالُها التغييرَ العظيم المنشود. تاريخ النهضة العربية المعاصرة حافل بالانقطاعات الحادة بين من يصدّرون الشعارات وبين من يبنون المؤسسات المضادة لها غالبا، وإنْ ادّعوا التخطيط والتنفيذ تحت هالة شرعيتها. فلماذا يُضَنُّ على الثورة الحاسمة أن تأتي معها بأفكارها مثلما أتت برجالها الجدد ووقائعها.. التاريخية. لن يغفل هذا التساؤلُ عن حقيقة الذخيرة الغنية من المعطيات الفكرية والاجتماعية غير المتصورة قبل حدوثها، تلك التي تبثها تجاربُ يومية للفعل الثوري الجماهيري، هكذا تقدّم شوارعُ المدن العربية الثائرة وقائعَها المتلاحقة، مترافقةً مع معانيها الأولى التي يتفهمها الوجدان العام قبل أن يتبين كلماتِها نصٌّ مكتوب أو حوار سياسي علني. وفي مصر اليوم مخاض هائل من ولادات المعاني مدعومة بشواهد أحداثها المباشرة. المايحدث المصري هو أنَّ أهرامه الهائلة تُظهرِ أسرارَه الإنسانية المخفية وراء صخوره الدهرية، لقد أعاد افتتاح قاموس المرجعيات الثورية عالميا. إنه يحبط تراث الدبلوماسيات الدولية، يحيل مخططاتها إلى متاحف العصر القديم، ما قبل الربيع، المايحدث لثورة مصر أنها لا تنفض عنها فقط نظاما استبداديا معتصما بقمته منذ عقود، بل تُشرك معه زلزلةَ مجتمع أزلي، كان ممحيا تحت جناح فرعونه البائد. الدوليات تفشل في إعادة إنتاج نظام الرئاسيات المصرية التقليدية ما فوق ظهور الجميع من مكونات الثورة وأحزاب الأمس واليوم المستجد ما بعد انتفاضة يناير 2011؛ فليس المجلس العسكري قادرا على ضمان مستقبله، كما كان جيشه فاعلا ومستقرا منذ خمسة عقود، ولن يكون تيار «الجماعة» الإسلامية وريثا، دينيا استبداديا، لاستبدادية العسكر. ذلك هو عنوان المآل الذي تنتهي إليه ب«مؤامرة» العملية السياسية التي اختطفت لذاتها قيادةَ الثورة فوريا بعد إسقاط الفرعون، تحت غطاء ادعاء الحفاظ على أولوية الدور القيادي للدولة وحدها؛ فلقد نجح النظام القديم لفترةٍ في التمترس وراء شرعية الدولة، وإن تخلى عن رمزها الحاكم سابقا؛ فكانت التضحية بشخص رئيسه مبارك ثمنا لبقاء دولته ما بعد عهده المشؤوم. هكذا انقضت سنة ونصف، والمجلس العسكري يحكم مصر وثورتها معا، يحكمهما سياسيا وسلميا، محاولا ما أمكنه أن يتجنب الوقوعَ في الخطيئة الاستراتيجية القاتلة التي تساقط في هُوتها نظام سورية، لم يضطر عسكر القاهرة إلى خوض حرب هستيرية ضد الشارع الثائر، كما كان مصير نظام دمشق المتمسك برمزه الأوحد وأسرته كلها وشبّيحته الاجتماعية والاقتصادية والإعلامية و.. المافيوية أخيرا، وإن كلفه ذلك التمسكُ الأعمى هلاكَ ذاته كليا دون أعدائه. النظامان المصري والسوري يخوضان حرب البقاء: الأول اختار الحل الدبلوماسي (المدولن) أصلا، وذلك بالتزام صراع سياسي بوليسي، طويل النفس نسبيا، والآخر أراد حلا مدولنا كذلك، ولكن بطريقة العنف (الوطني) اللامحدود، متعاونا مع مراكزه الإقليمية، عسكريا تشبيحيا. غير أن الحليْن برهنا على أنهما بائدان، كنوع الدَوْلنة الاستعمارية تقليديا التي ترعاهما ذاتيا أو موضوعيا، ولكن من دون طائل، مما يؤدي لدى الطلائع الواعية إلى مضاعفة الثقة بأن مركّبات الاستبداد/الفساد باتت صناعتُها شبه الدهرية خارجَ الزمن العالمي. لم يعد ثمة تطابق مفهومي أو واقعي بين العالمي والدولي التقليدي. و«الربيع العربي» الذي افتتح عصر الثوريات الشبابية ضد شيخوخة الظلم اللاإنساني الفاسد المعمم كونيا، تحت شكل سياسوي اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافوي، راح عمليا يضع شارات الرمز الفارق البنيوي التاريخي بين ما هو عالمي، تنسجه جماهير فُتوّة الشعوب، وما هو تدويلي، تخترعه استراتيجياتُ صراع الفئويات المتحكمة في مصائر الأغلبيات في كل مجال عمومي، معنوي أو مادي. هذا الفارق المتنامي ليس حدثا إجرائيا أو عابرا بين العالمي والتدويلي؛ إذ أصبح على هذا العالمي الفارقي أن يزعزع أكثر فأكثر من احتكارية التدويل للشأن الإنساني في كل مكان، و«الربيع العربي» يُغني ساحات الخبرات غير المسبوقة بمحاولات هذا التفارق المحتوم عبْر تسجيلِ نماذجه العملية لفصوله القادمة المعممة، داخل حدودها وخارجها. لعل العلامة الأقوى لهذا التفارق هي استعادة ثورة مصر لجذريتها المطلبية. إنها تضع حدا للعملية السياسية الجارية منذ اختطاف المجلس العسكري لقوة المبادرة السلطوية من إرادة الشارع الجمهوري، مما كان يجعل العسكرتاريا تدعي اعتماد منهجية الإصلاح بديلا عن الحسم الثوري، وذلك بطريقة تشكيل اللجان وإصدار المراسيم والقوانين، حتى المغامرة بتنفيذ حركيات الانتخابات والاستفتاءات، على أن تتكدّس أكوامٌ كهذه من الإجراءات الإدارية الشكلية، مكررةً بذلك سلوكياتِ الدولة التقليدية عينها التي كانت أداة الطغيان للاستبداد وفساده، لكنها تتغنى اليوم بلفظيات التغيير الزائف. وإذ يقترب هذا الإصلاح المشبوه من اقتطاف ثمرته العجفاء في استنساخ رئاسة، مُنْتخَبة شعبويا، لكنها مشتقة من أرومة دولة العسكرتاريا المستمرة نفسها، في هذا المنعطف الحاد الطامح إلى إلغاء مسيرة ربيع ملتبس لكنه حي باق منذ عام ونصف، سوف تستعيد الثورة شخصيتها الأولى، إلا أنها ستعود مفعمة بتجارب الالتفافات الأفعوانية الخائبة، على مفاهيمها الأولى البسيطة ومنهجيتها الساذجة. سترجع إلى شوارعها وهي شابة في عنفوانها، وقد تكون اكتسبت نضج الخبرات الناجحة ما فوق الأفخاخ الكثيرة التي لا تزال تُنصب في دروبها منذ انحطام الرأس الفرعوني، دون جسده، دولته. ما تعنيه العالمية اليوم هو عودة الشرط الإنساني للمتغيرات الكلية التي تهز أركان المجتمعات المتقدمة كما النامية أو المتخلفة، بعد أن خسرت النيوليبرالية معظم رهاناتها على احتكار مستقبل المعمورة لحساب أوهامها الافتراضية العابثة، وأولها وأهمها تطبيقُ قانون الاصطفاء الدارويني -نسبة إلى العالم داروين مكتشف قانون الاصطفاء بنوعه الحيواني الطبيعوي- تطبيقه على تاريخ الحضارات، بصورة آلية وشكلانية تطمس الالتباسات المعقدة بين حقليْ التطور لكل من الطبيعة والثقافة. باختصار اعتمدت النيوليبرالية على قوة الحسم التي تمتلكها اصطفائية النخبوية المالكة لثلاثية العنف الشمولي وهي: المال والسلاح والذكاء التقني، أما «العالمية» الجديدة فلقد تخطت دلالة الوساعة الكونية إلى مفهوم المواطنة الإنسانية، حيثما يغدو العالم وطنَ الحرية لإنسانية عادلة مع ذاتها، منتصرة لحق كل مظلوم، دون أن يعني ذلك أن عصر الظالمين قد انتهى. لكن عالمية الحق بالمقابل تزداد قوة وجرأة في تجاوز مواقع الدفاع الخطابي إلى أفعال القوى الحيوية الصاعدة المتمثلة في أجيال الشبيبة الرافضة لشيخوخة مجتمعاتها وظلامية أنظمتها الاستغلالية العاتية. قيمة الربيع العربي أنه ليس مبشرا فحسب، بل صانعا ومبدعا لإحدى طلائع هذا التغيير لعالمية جديدة «حداثية» تقف بالمرصاد ضد المحصلة النهائية للنيوليبرالية سياسيا استراتيجيا، مُجَسّدة في دَوْلنة مركّب الاستبداد/الفساد، وسيطرته الشاملة على ما يسمّى بالدبلوماسية الخارجية، المتدخّلة عمليا في كل شأن رئيسي لمصائر الأمم المضطهدة خاصة. لكن «الربيع» المنطلق عربيا لا يزال يولّد فيه وحوله كلَّ ساحات الصراع الرمزي القادم لهذه العالمية الشبابية الصاعدة، وقد راحت طلائع تحشيداتها تعمر شوارع المدن الكبرى ما بين أوربا وأمريكا. مصر والشام، في اللحظة، الدقيقة الراهنة، تخوضان معا أعظم جولات هذا الربيع، تتقابل فيهما ثنائية دَوْلَنةٍ نيوليبرالية طاغية لكنها تُنازع من أجل بقائها وهي في أخطر مفصل يتعلق بمستقبل القوى العظمى الغربية خاصة، ضدا على ثورة، شبابية/جماهيرية معا، مستمرة، ممعنة في تجذرها الخطابي والعملي، في فضح أواخر العقل الاحتيالي من ألاعيب الدم والنار. يحدث هذا كلما تساقطت رهانات النظام الفرعوني وتمدُّده إلى أبعد مدى من زمن الثورة. بينما في سورية ينخرط النظام في حرب المجازر منه وعليه. أما أساطين الدَوْلنة، إقليميا وغربيا، فلا يدرون أين هم منتصرون أو فاشلون. يبقى أن الثورة هي الممسكة بالبوصلة إن استطاعت التغلب على تناقضاتها التكوينية، فهي الموعودة والواعدة بالمستقبل المختلف لها ولأهلها، شرْط أن تكتسب من حاضرها القريب والفوري أهم دروسه، وأولها هو: إبداع قرارها من ذاتها والحفاظ على استقلاله، حتى في مختلف معادلات التحالف مع الأصدقاء أو الأنداد، المختارة أو المفروضة.