الربيع العربي غير متروك لتصفية موروثات شتائه المدلهم السابق، بفعل خصبه الشبابي وفتوته الجديدة وحدهما. ليس من السهل عليه حقا أن يشيل العوسج المتيبس من فوق براعمه الباحثة عن النور والهواء الحر. الربيع العربي لا يشحن شتاءه وراءه، بل يكاد يحمله على أكتافه، كأنه توأمه الدهري الفطري، ملاصقا لأديمه حتى صار مكتوبا عليه ألا يفجر زهرة إلا والأشواك تحيط بها من كل جانب، فليس من انتفاضة أو شبه ثورة إلا وهي لا تكافح عدوها أمامها فحسب، بل تخلقه أو تعيد اكتشافه وهو معانق لذاتها من جوفها عينه. شبابُ الشوارع العربية لا يحققون أحلام شعوبهم المضطهدة، إلا وهي آتية معها بكوابيسها المخيفة. تلك هي جدلية التاريخ الأعمق التي لا تتبرع بالتغيير إلا مرتفقا، بل مشروطا بأثمانه الباهظة. شبابنا قد لا يقدرون هذه الأثمان، يُفاجؤون بأهوالها من دون أن ينزاحوا من دربها، يتلقّونها بصدورهم العارية. «ميدان التحرير» لم يعد مجرد ساحة لثورة مصرية محدودة، إنها جبهة الخطوط الأولى المتقدمة لمختلف الثورات العربية الراهنة والمنتظرة. وقائعها اليومية تفارق مفرداتها الحدثية لتصبح نماذج للاقتداء، من قبل أممية عربية وعالمية في وقت واحد؛ فمن المقرر فلسفيا أن الشعوب المضطهدة هي المرشحة لتفجير الثورات، لكنها قلما تحوز ثمرات نضالها، أي أن الثوار قد يطيحون بالحكومات الجائرة، ولكنهم لن يكونوا حكّام السلطات البديلة إلا نادرا. أما الجديدُ في ثقافة الربيع العربي فهو أن الثوار الشباب قد يتمتعون بمقررات الكفاح السلبي، واثقون من أن لديهم برامجهم المتميزة للإمساك بالأنظمة السلطوية القادمة، وأن الثورة لم تعد غاية في ذاتها، لا تنتهي مع إسقاط الاستبداد، لا تفعل ذلك إلا لأنها مؤمنة بأحقيّة قيام سلطة مجتمع الحرية والعدالة؛ فالكفاح الثوري مشروط بعقلانية مشروع التغيير الشمولي لنظام الحياة العامة للجماعات والأفراد معا. لا شيء يسوّغ للشباب أن يفتح صدره لرصاص الحاكم الظالم إن لم يكن واعدا نفسه وأمته معا بأن يأتي بالحاكم الصالح العادل، يوما ما.. الأُممية الشبابية تطرح على ذاتها وشعوبها مشروع التغيير الشمولي الذي عجزت الحضارة القائمة الهرمة عن الإيفاء له بأضعف حق للإنسان بأبسط شروط كرامته وسلامه الروحي والمادي. شبيبتنا العربية هم اليوم طليعة هذه الأممية، لن يظلوا يعانون أشد مظالم هذه الحضارة الشائخة صامتين عن صراخ الألم ضد المذلة، لم يعودوا قابلين بالانسحاق في طاحونة ظُلاّمهم، أو حتى قابلين بغضب اليأس وحده. اكتشفوا عبقرية الانتظام العفوي السلمي في شوارع الغضب المديني، بعد أن كانت مآوى للمشردين أو معارض لأغنياء السلاطين وعَسَسهم وحراسهم، لن يتقوقعوا وراء أسطورة الثورة الناقصة، لن يطيحوا برؤوس الاستبداد دون أن يتنبهوا إلى أسرار آلته المنتجة لصناعته؛ لذلك لن يكون الربيع العربي مجرد فصل سياسي عابر. هذا المصير هو رهان فصول الثورة المضادة، أن تجعله ذاكرة مضيئة ببعض الشعارات والإنجازات، وأن تعيد أنظمة الاستبداد القديمة ارتداء مَلابِس التنكر الثورجي الجديدة. التجربة المصرية تُفرج عن استعراضات الثورة وأضدادها في وقت واحد، فالأشهر العشرة المنقضية كادت تقضي على آمال التغيير واحدا بعد آخر. كانت مرحلة كئيبة، ومؤدية إلى أتعس النتائج العكسية لأحلام الانتصار على نظام الفَرْعَنَة؛ لكنها كانت المرحلة الضرورية كذلك لإنضاج واحد من أعمق خصائص الربيع العربي، وهو أنه باعث لما يعنيه مصطلحُ الثورة المستمرة. لم يعد شعارا إيديولوجيا، صار هو الشرط الضروري والكافي ليصبح مستقبل الثورة من جنس حاضرها، أي مالكا لظروف تحققها كمشروع نهضة إنسانية مجتمعية متكاملة. وإلا فليس ثمة تغيير في شخص السلطان، قد يغيّر قانون السلطنة نفسها. خلاصة التجربة الربيعية في «ميدان التحرير» هي هذا الكشف التاريخي البنيوي عن الفخ المظلم الذي طالما وقعت في براثنه الثورة العربية التقليدية، منذ فجر الاستقلال الوطني، وهو المزج بين العنف الثوري والعنف العسكري؛ فإن كان لربيع مصر ما يميّزه حقا فهو أنه كاد يمزق كل الحجابات التي كانت تغلّف هذا الأخطبوط المرضي الذي أجهض أنبل ثورات النهضة الثانية من وعودها التاريخية، وعَكَسَ حصيلتها، وجعل العصر العربي الحديث مرصعا بمختلف هزائم الحضارة المغدورة ودُولها الفاشلة. ثنائية العسكريتاريا/الأنتلجنسيا كانت هي الحاكمة بأمرها من دون منازع في منعطفات تاريخ الاستقلال العربي المعاصر. ولم تكن الغَلَبة ولو لمرة واحدة، لقطب المثقفين على القطب العسكري، مما يعني أن جمود السياسة العربية تحت سقف الاستبداد في مختلف تلك المنعطفات، كان مرجعه الأول إمساك العسكر بالقوة التنفيذية المنظمة، بالقبض على ناصية المبادرة في كل مشروع ثوري محتاج إلى الانقلاب السلطوي. وفي حين يخصّ المثقفون أدوارهم بالتميز الطليعي في ميدان الفكر، أي في تشخيص الحالة المجتمعية وتحليل ظواهرها المرضية، والبحث أو التيهان بين أجنحة التنظير ومنهجيات الممارسة، فإن القائد الميداني يُجْهز على الهدف بالضربة القاضية، واضعا الجميع و(طلائعه) المثقفة أمام الأمر الواقع من كل تحول سلطوي فوقي. وفي هذه الأحوال الاستثنائية شبه الدائمة، لم تكن عسكَرةُ السياسة هي الظاهرة الآمرة في الشأن الدولاني، بل كانت العسكرة هي العدّوة (الأهلوية) المباشرة لمولد السياسة، ما يمكن اعتبار نهضة الاستقلال أنها فاقدة فعلا وواقعا ليس لأجهزة السياسة المعروفة وحدها، بل عاجزة عن شعورها بهذا الفقدان عينه، فلا غرابة إذا احتكر الانقلابيون وحدهم واجهة التغيير، بحيث لا يمكن القفز ما فوق حلقة استبدادية إلا بدرجة تسلطية أعلى وأدهى من سابقتها. العسكري الحاكم، مرتديا حلّةَ المدني، لا يجد فرقا بين الانضباط التراتبي في الجيش والممارسة السياسية في السلطة. إنه يرفض أن يوصف سلوكه بالاستبدادي. إنه يصدر أوامر لمن هو دونه في الرتبة، كما أنه ينفذ أوامر من يعلوه. بين الانضباط والاستبداد فروق دقيقة لا يدركها إلا القادة العظام. هؤلاء هم القلة النادرة في التاريخ السلطوي العربي. لعل جمال عبد الناصر وحده كان فَهِمَ، بعد هزيمة السابع والستين، أن الثورة ليست صناعة عسكرية، وأن التنظيم الشعبي الحقيقي هو جيش الثورة وليس العكس أبدا. وأنه لم يفت الأوان بَعْدُ من أجل قلب المعادلة السابقة الخاطئة، لكن الموت أدركه قبل أن يتاح لتنظيمه الشعبي، أو الطليعي ذاك، كما دعاه، أن يسترد الثورة من الثكنات ويعيدها إلى أهلها الأصليين من العمال والفلاحين والمثقفين. ذهبت ثورة مصر والعرب مع قائدها إلى ما وراء الزمن، وبقي الاستبداد ليعيد (السادات) بناء أعمدته السبعة المشؤومة، ولكن كذلك ليدفع حياته ثمنا للغدر الفاضح، فقد هزم العدو الجيشَ وأطاح بالثورة ووريثها الضال (السادات). وجاء مبارك ليرث الاستبداد وحده فرعونيا خالصا، وأتى أخيرا رابعهم (طنطاوي) ليرث المباركية بدون مبارك؛ مما يجعل ثنائية العسكريتاريا/الأنتلجانسيا تكرر حَلَقَتَها المفرغة. تردّ الربيع العربي إلى شتائه الصقيعي السابق. لكن «ميدان التحرير» أعاد وضع الحدود الفاصلة بين الثورة الناقصة والثورة المضادة. منع الخلط الخبيث بين المصطلحين، فالأولى مازالت قادرة على تصحيح نفسها، واستئناف مسيرتها لتغدو مدخلا تاريخيا مشرّع الأبواب الكبيرة لولادة صيغة الثورة المستمرة. لم تعد تخشى نقيضتها المضادة، بل إنها تستنفزّها وتتحداها لتُبرز كلَّ أسلحتها المسمومة، فالانفجار الراهن في تلك الثنائية التقليدية تكشف عن أصالة القوة الثالثة المفقودة ما بين قطبيها الشائخين معا، عن هذا الذخر أو الكنز الهائل الضائع من طاقة الطبيعة الحيوية في جسد الأمة، فقد عثر على نفسه بنفسه من دون أي دليل أو موجه. إنه بركان الفتوّة الصاعدة، الموحِّدة بين الحرية والكرامة، والمؤالِفة بين الغضب المشروع والوعي المبرّأ من آفات الشيخوخة الحضارية، إنه المبشر بولادة إنسان الحق في معمورة اليوم والغد، وليس المنذر بنهايتها المشؤومة. الثورة الشبابية المستمرة فرضت إعادة اصطفاف التنظيمات السياسية القائمة بناء على معيارية غير مألوفة، تنتمي إلى ذخيرة القوة الحيوية لكل حزب أو تيار أو جبهة. بما تعنيه هذه الذخيرة من قدرة على التفكير المختلف، والتنهيج العملي الجديد، وما يحتاجه كل ذلك من الدم الحار والوعي الثاقب لأحاجي الإشكاليات العامة المتكررة، وكيف أنها تضمر العفنَ أكثر من قدرتها على بَرْعمة العقل الحر النظيف، وتطهيره من علل الاستبداد والإفساد. إذ هنالك حاجات طارئة لا يستوعبها إلا وميض الحيوية المشتعلة بجمرها الفكري المتقد. حاجاتُ إعادة النظر في مسميات السياسة اليومية والمُثُل الأخلاقية السائدة، ذلك أن الثورة الشبابية هي كذلك ثورة المعايير على مقاييسها المستهلكة المعتادة، ذلك النضج العفوي الذي تَعِدُ بثماره الوفيرة هذه الثورةُ الشبابية، هو الذي أصبح يدهش الفكر النهضوي في العالم المتقدم. ومن هنا تتعاظم حجوم التحديات الثقافية قبل السياسية، التي يمكن لهذا النضج المبكر والمفاجئ أن يفتتحها أمام أجيال وطنية وعالمية مغايرة لآبائها وأجدادها، وتتطلب فهما حضاريا لم تعهده نظريات التغيير المحفوظة في الذاكرة الإنسانية العامة. نحن نعيش بعض بوادر عصر مباين تماما لكل تهويلات «نهاية التاريخ». فقد يكون حقا خاتمة لإنسانية فاشلة. لكنه بداية لإنسانية أخرى لا نجرؤ على تعريفها منذ اليوم، إلا بكونها إنسانية فتية طاردةً لمأتم إنسانية كانت مهزومة دائما بهمجيتها المتجددة، حتى كادت أن تضيّع كل فارق نوعي معها...