هل نقول إن العرب قد يجتاحهم وباء الحرية، بعد أن عانوا دهورا من أوبئة الطغيان وظلاماته المتنوعة من إنسانوية بطاشة ولاهوتيات جامحة جائرة. العرب اليوم ينتخبون (زعيمهم) المصري الجديد، إنهم في مختلف صحاريهم يعانون شظف العيش من دون زعامة، يصفونها بالامتياز المفضل عندهم، أي بالتاريخية. هذه هي المرة الأولى التي لا تسقط فيها الزعامة على الناس من فوق رؤوسهم؛ ونحن نقول: زعامة لأن جماهير مصر والعرب تريد زعيما، تنتظر الرجل الخارق، تشعر بعِظمَ مشكلاتها الحياتية كأهوال لا تزيلها قيادات عادية. العرب يعيشون اليوم الثورة، فلماذا لا يأتي زعماؤهم الجدد ثوارا حقيقيين! هذه هي المسألة؛ مع ذلك لن تكون الزعامة مجرد حنين أسيان لحلم عظيم كَحَّل عيونَ الملايين بأحلى وعود التاريخ، لكنه انكسر في لحظة الأوج من التحليق، لينقلب الحلم الجميل إلى كابوس رهيب مستديم، متسلسل بأبشع ما تُبتلى به أمةٌ من هزيمة كبرى، لا تصحّحها عبثا إلا هزائمُ أخرى تتراكم فوق أجداث بعضها بعضا. لكن الأمل في الزعيم الخارق هذه المرة لن يكون وصفة سياسية أو إنسانية جاهزة، بل ربما كان الأمر بعيدا عن كل تفكير مؤسس على الإيمان بالمعجزات. هذا بالرغم من ضخامة المهمات السلطوية المطلوبة؛ فقد يكون البديل الممكن عن الرجل الخارق هو مجرد الرئيس العادي والطبيعي. على أن تفهم خاصية العادية هذه بكونها تعني بروز الإنسان الحقيقي الذي تكفيه صفاته (الإنسانية) هذه كيما تحكم أداءه بأفضل ما يتطلبه الظرف الذي يوجد هو فيه؛ فقد اعتبر المفكرون التنويريون أن الديمقراطية الصحيحة هي التي عليها أن تعيد إنتاج مجتمع للبشر الأسوياء على أطلال مجتمعات الغاب والفوضى؛ فالظلم والاستغلال والفساد، هذا الثالوث المرعب للانحطاط الإنساني قبل الحضاري، لا يقسم المجتمع المتخلف إلى أقلية من أحرار وأكثرية من عبيد وأشباههم فحسب، بل يسوّي في ما بينهم جميعا كعبيد منقادين لأحوالهم الشاذة، تلك التي يفرزها تفارُق طبقي محكوم بالعنف والقهر، ضدا على مبدأ التكامل الجماعي المتمفصل مع مبدأ التمايز الإيجابي لإمكانيات الأفراد؛ ذلك أن الوقائع التاريخية لم تقدم حتى اليوم تجارب ناجحة عما يشكله المجتمع السويّ، كأن المجتمع المختل أو المنحرف هو النموذج السائد عالميا، وليس عربيا أو شرقيا فقط. لكن، حتى لا يُتهم المجتمع السوي بالنمذجة الطوبائية، فإن تكرار تجاربه الفاشلة عمليا لم تمنع التنويريين من التفكير في طرق تحققه أو التقرب من بعض خصائصه. كأنما يبدو أن الحكم السليم في المجتمع المختل هو حلم طوبائي. وقد يظل الأمر هكذا، أي عصيا على التدبر المتاح واقعيا، إلى أن يحدث لما هو مستحيل، أن يصير ممكنا؛ عندئذ تُطلق على هذا المستحيل المباغت أسماءُ الثورة ومرادفاتُها. غير أن بعض الفكر الإصلاحي المعاصر قد اخترع حلا ثالثا في (علم) السلطة، بين معياري السويّ واللاسوي، يدعو بموجبه إلى شعار الحكم الرشيد. حيثما تختفي في سجل هذا الشعار كلُّ المصطلحات الحدية إيجابا أو سلبا؛ فالحكم الرشيد يريد أن يميز نفسه بكونه وسطيا بين اليمين واليسار، وبالتالي فإنه يحتكر لذاته مزايا الاعتدال؛ لكن ماذا تعني اعتدالية السلطة هذه، فهي الأقرب إلى الأحوال السيكولوجية منها إلى السياسة. يفسرها أصحابها، أو المدّعون لفضائلها، بحسب أهوائهم وحاجتهم إلى التمويه الدعاوي على ممارستهم الفعلية لتحركاتهم المتناقضة غالبا. من المفترض أن الثورة تضع حدا لمختلف أشكال السلطة التي سبقتها، وكانت بمثابة مقدماتِها المضادة، الباعثة على انتهاض الجماهير من سبات التسليم بالأمر الواقع، بعد الاستسلام لإكراهاته. لكن إذا اندلعت الثورة اليوم، فليس الحكْمُ لها في الغد؛ واقعها الحدثي ليس بالضرورة صانعَ سلطتها. حكايا الثورات الكبرى والصغرى تثبت أن ثمة هوة دائما ما بين أفعالها الشارعية المباشرة وأحابيل القمة التي ستحكم باسمها. وفي مصر العزيزة يتحقق ثمة مفصل تاريخي هائل لما تعنيه هوة التفارق بين ثورة الشارع و(ثوَران) السلطان؛ فليس بين بقية المرشحين لرئاسة الجمهورية الثانية سوى وجه واحد من وجوه الجماهير الشابة الصانعة لانقلاب الفرعون الأخير. مع ذلك، فهذا الاصطفاف لثلاثة عشر مرشحا لم يأت عن عبث، إنه على الأقل يمثل صفا من الانعكاسات الرمزية لتيارات اجتماعية قائمة وفاعلة. لا يمكن لأية ثورة أن تحلم بتغيير جميع الناس بين ليلة وضحاها، لكنها تكافح لكي تكسب الأغلبية ما بين النخب الواعية، وليس بين أكثرية الجماهير المطلقة؛ فذلك أمرٌ يعرفه فكر الحرية الذي هو روح الثورة الجديدة التي تميز «الربيع العربي». حتى لو فاز هذا الربيع بدولة الحقيقة يوما في دنيا العرب، فإنه لن يكون (مواليا) لذاته إلا بقدر ما يكون معارضا لها في الوقت عينه، حتى يظل حكما حرا جديرا باسمه ذاك. لا ننسى أن استرداد المجتمع لحقه الصريح في الترشيح لمناصب السلطة، وممارسة أفعال الانتخاب وتوابعه، هو تعبير نسبي عن الديمقراطية؛ فهذه الممارسات هي وظائف اجتماعية عليا، لكنها جميعها ليست سوى وكالة الأقلية عن الأغلبية، من هنا يجيء مصطلح الديمقراطية التمثيلية، فليس (كل) المجتمع من يحكم نفسه بنفسه، فالمجتمع مضطر إلى أن يجلس وراء من اختارهم للنيابة عنه. إنها ديمقراطية الحكم بالوكالة، بالنيابة عن الغير. هذا (الغير) قد يرجع إلى شخصية معنوية، وإن أُعطيت اسم الشعب تارةً والمجتمع تارة أخرى، لكنه سرعان ما يصير -هذا المرجع- كما مجهولا، أو قابلا للتجاهل أو النسيان لا يُستحضر إلا في مناسبات التصويت. الغرب الفخور بحرياته يعيش تجارب الديمقراطية النسبية، يدرك حدودها المنقوصة، يحاول التعويض عن تجزيئية التمثيل النيابي بإطلاق العنان ما أمكن لفعاليات التعبير الفردي والجماعي، الأمر الذي يرفع كل أنواع السدود من حول الممارسات العامة، بحيث يتعذر على أية سلطة التفلُّت من الرقابة أو المحاسبة، هذا لا يعني بالطبع أن ثقافة المواطنة قد امتلكت كامل حقوقها. لكنها استطاعت أن تفرض معاييرها، حتى يصير المجتمع شافا بعيونه أولا، فهو وحده صانع أفعاله العامة، وهو المسؤول الأول عن صَلاحتها أو انحرافها، فلا شرعية أو مشروعية لأية مؤسسة إلا في مدى اندراجها تحت مصطلح المصلحة العامة، كما يحدد تعريفَها كلُّ عصر حضاري بحسب تقدمه، أي بقدرته في جعل السلطة المقبولة والمعقولة هي للفكر النقدي أولا، المسلح دائما بأدوات الكشف والتحليل العلمي. ما يعنيه مجتمع التقدم ليس هو في إنتاج العلم فقط، بل في الانصياع إلى حقائقه كأوامر فاعلة في تسيير مختلف شؤونه. والسياسة هي مفتاح هذه الشؤون. لكن السياسة ليست حرفة مقتصرة على أهل السلطان وحواشيهم. إن كل مواطن حر هو سياسي. وبالتالي، يتم تصحيحُ الديمقراطية التمثيلية، المتهمة بالنقصان والقصور، وذلك بإفساح المجال أمام ديمقراطية المواطنة النقدية، المتمتعة بأصول المشاركة العامة، إذ يصبح المجتمع ككل حرا، أو مدافعا عن حريته، أو جاريا وراء آفاقها، بعد كل تحقيق سليم أو خاطئ لإنجازاته هو تحت طائلة مفاهيمها ومعاييرها.. حاضرة أو غائبة. «الربيع العربي»، الرافع للواء الحرية، لا يعرف بعْدُ كيف يحول هذا الشعار العظيم إلى مؤسسات حياته اليومية. وقد اعتبر شباب الثورة أن التصويت الشعبي هو المدخل نحو الديمقراطية، وإن كان هذا التصويت راهنيا لن يأتي برموز القيادات الشابة الثائرة إلى مصافّ السلطة منذ الجولات الأولى، أو حتى بعد الدورات النيابية القادمة. لكن التصويت في حد ذاته جذب الناس إلى المشاركة الفعلية باختيار رئيس غير معروف مسبقا، أو غير مفروض. حتى عندما لن تأتي النتيجة بالشخص المأمول، فليس ذلك شرطا لقيام العملية السياسية أو لرفضها. وإذا كانت هناك بعض الكتل الجماهيرية الكبرى لا تزال تحن إلى الزعامة الخارقة، فلن يكون ذلك الحنين معيقا لمولد الجمهورية المصرية الثانية، لا بأس أن يأتي الرئيس (العادي) الذي يمكنه أن يحول مبدأ الزعامة الخالدة إلى شعبه، ليخلق منه مجتمعا زعيما على ذاته، حاكما بأمره. «الربيع العربي» ليس وعدا قاطعا مع الجنة، لكنه قد يقترح دروبا كثيرة نحوها، على الثوريين أن يميزوا صالحها من طالحها. عليهم الاختيار، وإنْ لم يكونوا ملزمين بتعبيد الطريق المختار إلا برفقة شعوبهم، فقد نجحوا حتى الآن في كسر احتكار قوة المبادرة وحرروها، إلى حدود بعيدة، من كثير من الأيدي القذرة القابضة عليها. فتحوا الشوارع لمعارك الهدم والبناء، في وقت واحد، وفي مصر (المعمورة)، التي تلوح فيها ملامحُ دولة الجمهورية منافسةً للدولة الفرعونية، يصبح رهان التغيير أمرا يوميا، يتمناه الجميع. لكن النكسات لن تُخليَ أمكنتَها أو أدوارَها من مسارات العمل الشعبي. وقد يتطلب التغييرُ تكاليفَ بشرية ومادية باهظة، تتجاوز أحيانا تكاليف الاستسلام لدولة القهر. إنها الأفعال الحرة وحدها هي التي قد تأتي بحقائق هائلة تفاجئ أكثر العقول تفاؤلا بوقائعها. فإذا لم يَرَ العرب المتلهفون لنصر ساحق في القاهرة، لرئاسياتها، يعادل إسقاطَ فرعونها الأخير، فليس هذا فشلا للثورة يبرر العودة عنها أو البحث عن ثورة ثانية؛ ذلك أن التاريخ العربي المعاصر لا ينتج الانعطافات الفاصلة هكذا جزافا، ها هو يجيء بنوع التحدي الكلي الذي حلمت به الطلائع عبر لحظات الحسم النهضوي، وهو تحدِّ مارد متواضع قد كسر قمقمه، أطلق سراح ذاته، ليكون حرا، فماذا يفعل بحريته.. لن يصارع بعد اليوم طواحين الهواء، حروبه القادمة لا تصلح لها السيوف الخشبية بعد اليوم؛ لا بد للمارد المتواضع الطليق أن يغدو ماردا حقيقيا بمعنى الكلمة، وإلا فالقمقم له قدرة سحرية على سحبه واجتذابه نحو قعره المظلم مرة أخيرة..