نحن الأربعة(عبد السلام بنعبد العالي، خالد بلقاسم، نور الدين الزويتني، وكاتب هذا العمود) انحشرنا صباح تلك الجمعة، على نحو سريع، في حافلة صغيرة، عاقدين العزم على زيارة قبر الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي. لم يكن لنا موعد سابق مع السائق، لكن انعراجه على نحو مفاجئ ووقوفه القسري لنا، جعلنا نحس بتلبيته لنداء خفي وضعه في طريقنا، بعد أن كنا قد قطعنا المسافة الفاصلة بين ساحة المركب السياحي صحارى وطريق بيروتبدمشق، في لحظات معدودات، ووقفنا على جانب الطريق بانتظار حافلة. داخل الحافلة تبادلنا نظرات التواطؤ والدهشة. كانت ابتسامة بنعبد العالي مصحوبة بومضات طريفة تتنسم ظلال العقل دون أن تخضع لسلطته تماما. إنها طريقته الخاصة في إعلان اتصال يريده أن يكون انفصالا تاما، لتبقى مسافة المابين عزيزة. كان خالد بلقاسم حاضرا بيننا بنوع من الغياب الذي طواه الشوق إلى زيارة مقام حدثَّني أكثر مِن مرة عن تشوُّفه إليه. أنظرُ إلى وجهه، فأجد في عينيه إشراقة ظافرة، بينما جوارحه تلهج بممارسة رياضة صوفية ترجَمَها لسانه بعبارة التخلي والتحلي: تعليق الأحكام وقراءة الإشارات بعين الباطن التي لا تعرف الصدود. أما نور الدين زويتني، فكان من جانبه يشارك في فصل من مناظرة لا مرئية، بتعليقات متقطعة، تفتح ما تَفتَّق من أفكار على آفاق أرحب، ظهرَ خلالها شديد الولع بالتفاصيل والتنقيبات اللغوية. وكنتُ مِن جانبي جزءا من المشهد، أقتطع مِنْ صمت أطبقَ علي من لا مكان، كلمات قليلة أدفعُها قوتا لهواء ذلك الصباح الجليل. يُشرف جبل قاسيون على مدينة دمشق، التي تتهادى تحته ليلا بأضواء شوارعها ومنائرها وأسواقها وبيوتاتها، فتبدو مثل بحيرة هادئة أو سماء مرصعة بالنجوم. ولعل أحلام اليقظة التي فجرتها بداخلي تلك الإطلالة العجلى من قمته على دنيا دمشق، في ليلة البارحة، صحبة الشاعر محمد الصابر، هي التي كانت ما تزال تربض علي ذلك الصباح، وأنا آخذ مكاني بجانب أرواح حائرة، تهتدي بأضواء خافتة من كلام العقل أو الجوارح أو حتى الصمت، في الإنصات لنداء تجربة مدوخة، يتقاطع فيها الفكر والشعر والجسد والروح، على نحو يبعث على الحيرة والاندهاش. بمحطة جسر الثورة كان لنا موعد. لكنه بلا شك الموعد المخلوف. لأن نداء الشيخ الأكبر كان أقوى من دقائق الانتظار. شخصتْ أعيننا باتجاه جسور موغلة في الحلم، تَصلُ دمشق بجهاتها الأربع. وأشار علينا رجل من المحطة بركوب طاكسي صغير، يأخذنا إلى منطقة الصالحية، حيث ترقد عظام ابن عربي، في جناح من مسجد يؤمه المصلون والزوار من كل مكان. أمام عتبة المسجد، نزعنا أحذيتنا وهبطنا الدرجات القليلة باتجاه البهو، حيث يعرج قبر ابن عربي يسارا، فيما بوابة الصلاة مستقيمة أمام النازل. على اليمين عُلِّقتْ لافتة صغيرة دُونت عليها نية الاعتكاف: «نويتُ الاعتكاف في هذا المسجد ما دمتُ فيه». عرجنا جهة اليسار، ثم هبطنا الدرجات العمودية التي تُفضي إلى ضريح الشيخ. أعلى الدرجات، يواجهك صوت ابن عربي مدونا على لافتة متواضعة: «فلكل عصر واحد يسْمونه/ وأنا لباقي العصر ذلك الواحد». أخذنا مكانا بجوار الشيخ، وغرق كل واحد منا في عتمته الخاصة، لينير الشمعة التي يريد، في حضرة روح الكبريت الأحمر. من هذه الزيارة عُدنا بفواكه ونفائس لا تُرى. جامع ابن عربي منفتح على زقاق الفواكه والخضار والزيتون والنعناع والبقول. وعندما تخرج من بوابته، تستقبلك حوانيت التجار عارضة أمامك بضاعتها المنتقاة. هناك من يكتفي ببضاعة ابن عربي، وهناك من يضيف إليها شيئا من تلك الطيبات. من جانبنا: خالد بلقاسم وكاتب هذه السطور، لم نكتف بزيارة واحدة. عدنا في ليلة الغد، بعدما اختار عبد السلام بنعبد العالي المشي في شوارع دمشق، واضطر نورالدين الزويتني العودة إلى الفندق، استعدادا للأمسية الشعرية.