-1 أنا لا أحب العربية. هذه اللغة ترهقني. لِمَ ندرس العربية ونحن لن نحتاجها مستقبلا؟ إرهاق، إرهاق. اشرحْ هذا البيت؟ بيّن معنى الاستعارة؟ الطباق؟. المقابلة؟ الإعلال؟ لماذا كل هذا يا أستاذ؟ هذه الشكوى آتية من تلميذة يظهر على عينيها الكثير من الذكاء، تدرُس بشعبة العلوم الرياضية بالتعليم الثانوي، تتحدث بدارجة جيدة وبفرنسية أجود، وتقرأ رغم ذلك النصوص المكتوبة بالعربية الحديثة بدون تلعثم. سألتها عن مضمون فقرة قرأتْها فأجابت بسرعة وبدون خطأ، تقريبا، على المستوى الشفاهي. تركيب الجملة لديها سليم إلى حد كبير. ورغم ذلك، فهي تكره العربية. لماذا تكره هذه الفتاة الذكية اللغة العربية؟ اللغة العربية (الدارجة شفهيا والفصحى كتابيا) هي اللغة الأم لديها. لها أهمية وتأثير على نوع المواد التي تدرسها بما أن العربية الفصحى هي حاملة لكل المواد التي تتلقاها لاجتياز امتحانات الباكلوريا. هي لغة تُعتمد في نظام الباكلوريا الدولية (OBI) ولها معامل مرتفع في المغرب في هذا النوع من التعليم (الفرنسي في شعبته الدولية، مثلا)، ورغم ذلك لم يقنع التلميذة شيء من هذا. إنها ترهقني وتتعبني يا أستاذ، قالت. ما سبب رفض هذه التلميذة للغتها الأم؟ هل هو رفض لهويتها؟ من المسؤول عن تبعثر حالتها وعن الإرهاق النفسي الناتج عن تعاملها مع لغة الضاد؟ بعد نقاش قصير لي معها، أقرت الفتاة بأن العيب قد لا يعود إلى اللغة ربما، وإنما إلينا نحن، كما قالت. جدي هو زنيبر، الكاتب السلاوي المعروف، وعائلتي في جزء منها تنتمي إلى عائلة سكيرج، عائلتنا مشهود لها في الماضي بالعلم والفقه والأدب والتبحر في علوم اللغة العربية، كتابة وتدريسا؛ هذا ما أفصحت عنه. ورغم ذلك، أصبحت العربية الفصحى تشكل حاجزا بينها وبين الدراسة. لا أذكر، قالت، أنني قرأت كتابا باللغة العربية باستثناء مقررات فرضت علي فرضا، كرهت لغتها. وكتابات المنفلوطي الثقيلة لم تقدم إلي شيئا، ولا جبران خليل جبران الممل، متى سأحتاج هذا النوع من الكتاب في حياتي؟ فلمن يعود السبب في هذه الوضعية، وأشباهها كثيرة؟ إلى اللغة نفسها؟ إلى طرق تدريسها؟ إلى البرامج؟ إلى المدرسة المغربية؟ إلى المدرسين؟ المسألة أصعب من أن تعالج ببساطة. وشكوى هذه الفتاة المشروعة ستبقى حاضرة دائما وبقوة، وهي في العمق تعبر عن جيل بأكمله. أبناء فقهاء اللغة أصبحوا يكرهون العربية وكأنما انتقاما من حالة الفقر الفكري والتاريخي الذي هم فيه. 2 - أنا الآن أكتب باللغة العربية كلاما عاديا وبسيطا، وبتركيب بسيط.. فعل وفاعل ومفعول به أو مبتدأ وخبر. لا حاجة إلى الماكياج، لا حاجة إلى التزويق. أكتب ما يعنّ لي، لدي قاموس اكتسبته من قراءاتي الخاصة انطلاقا من المدرسة ومن الكتب بعد ذلك. لا أجد صعوبة في الكتابة، ولذلك قد لا أفهم عمق مأساة هذه الفتاة التي تتحدث معي بعربية دارجة سليمة، وتتحدث مع صديقاتها عبر هاتفها النقال بفرنسية جيدة وسريعة وكأنها نشأت في عمق باريس. لغتي مسكينة. هي حبيبتي وأنا حبيبها، ولكنها ترهقني في التواصل الكتابي يوميا مع فئة الشباب واليافعين. هي ليست حبيبتهم ويكرهونها ويكرهون طريقة تدريسها، وقد يكونون معذورين على ذلك. لمْ أغضب من هذه الفتاة ولا من ابني الذي يتهكم أمامي متسائلا: ما الفائدة من الإعراب يا أبي؟ هل سنردد أمام صديق في الشارع: أعرب ما يلي: ما أعظم السماء! وحين يعجز عن الجواب ويطلب منك الجواب الصحيح، تجد نفسك عاجزا أنت أيضا، ببساطة لكونك نسيت محفوظك الذي لم ولن تفهمه أبدا. نحن ننسى كل شيء في لغتك يا أبي بمجرد الانتهاء من الامتحان. 3 - من الذي يضع الحواجز بين اللغة الأم وبين أهلها؟ هذه العينة التي تتفاخر بالحديث بلغة أجنبية لِمَ تكره لغة أجدادها؟ لعل الوظيفية هي ما يدفع هؤلاء إلى اتخاذ هذا الموقف، أي النفعية في بعدها الضيق. أنا سأتعلم اللغة التي ستدر علي ربحا ماديا مستقبلا، هكذا يتحدثون بلا مراوغة ولا لف. سألت طفلا يبلغ من العمر 13 سنة عن ترجمة كلمة infermière بالعربية، فكرا طويلا ولم يستطع جوابا. هو يدرس بمؤسسة مغربية خاصة مشهود لها بأعلى النتائج، يدرس 8 ساعات للغة العربية وقواعدها وشعرها وسردها، وتفرض عليه قراءات موازية لكتاب عالميين وعرب ومغاربة، ورغم ذلك لم يستطع الجواب عما حوله بذكر لفظة «ممرضة». سألته عن armoire، فبادرني هو بالسؤال عن معنى comptoir بالعربية، لم أستطع الجواب مباشرة، وتعجبت من ذكاء هذا الجيل. سأحتاج هنا ربما إلى قاموس للترجمة للجواب عن سؤال من هذا النوع من الكلمات التي لا نستعملها إلا بالدارجة اليومية، أما المفردات الحديثة المستعملة في الحاسوب والأنترنيت فأنا فيها مجرد أمي كبير أمام هذا الطفل الصغير الذي يستعرض علي برامج كاملة للإكسيل والجافا والفوتوشوب وأمثالها. هو لا يهتم بلغة المكتوب بقدر ما يهتم بلغة التقنية الحديثة التي هي لغة العصر، وأنا ضعيف أمامه في مجرد الجواب عن ترجمة لكلمات قليلة الاستعمال في اليومي، رغم كوني متمرسا إلى حد ما على ترجمة أكثر القصائد غموضا، أجدني حائرا لا أقوى على فعل شيء أمام هذا العصف اللغوي الهائل. 4 - لِمَ يتم رفض التعامل بالحروف العربية بشكلها الحالي؟ هل هو رفض للجذور إذا كانت جذور المتعامل عربية؟ هل هو تمرد على الأب وسعي إلى التخلص منه وقتله أم إن الجواب في جهة أخرى؟ بالعودة إلى تصريح التلميذة الأول: أنا أكره العربية يا أستاذ، استحضرت ما جرى مؤخرا في حمى الانتخابات الفرنسية حين تابعت جزءا كبيرا منها على قناة «فرانس 24» الدولية الناطقة بالعربية، شباب وكهول يتحدثون بلغة عربية سليمة، لغة بسيطة توصل الفكرة بأسرع ما يمكن. تتبعت روبورتاجات على راديو «مونتي» كارلو الدولية الناطقة بالعربية التي تضم عددا هائلا من الصحفيين العرب، من بينهم الشاعر المغربي الحداثي عبد الإله الصالحي.. هم يتحدثون بلغة عربية حديثة، سهلة التناول والتداول، يوصلون أفكارهم بها دون عقد ولا كراهية وهم يعيشون في أوربا، يتقنون لغاتها المتعددة، يتحدثون بالعربية ولا يكرهونها. وقد لا يكون من بين أجدادهم بالضرورة من تفقه وتشرب العربية. المعضلة اللغوية هي قضية سياسية، قضية بلد، هوية أمة. يتداخل فيها كل شيء. العيب الكبير في أهل اللغة الرافضين -عن وعي أو لاوعي- لكل تطور لا خوف فيه ولا مهادنة، لا مع الماضي ولا مع المستقبل. أختم هذا الكلام بفقرة من مونولوج الفنان الساخر سعيد الناصري الذي يقول فيه متهكا بدارجة جميلة ومعبرة: دورْ مع خوك، راه قاري غير العربية.