أفاضت وسائل الإعلام، مصرية وعربية ودولية، في كيل الثناء للمناظرة التي أجريت بين المرشحين الرئاسيين عبد المنعم أبو الفتوح وعمرو موسى، وتبارى الكل في وصفها بكونها «مناظرة تاريخية» وكونها «أهم حدث سياسي في مصر بعد الثورة»، وكونها «دلالة على أن مصر ستظل سباقة وملهمة»، بل إن البعض بالغ فوصفها بكونها «مناظرة القرن»، رغم أننا لانزال في بداية القرن، ورغم أنه لم تمض أيام على مناظرة الانتخابات الرئاسية الفرنسية المثيرة، وأن شهورا قليلة تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تعتبر المناظرات الأم في العالم. لا أود أن أقلل بحال من شأن مناظرتنا، فمن المؤكد أنها بالنسبة إلينا في مصر حدث جديد لم نشهده من قبل، بل إننا لم نشهد في تاريخنا تنافسا حقيقيا في انتخابات رئاسية، كما لا يقلل من وزن المناظرة أنها انتهت بلا حسم، سواء بنقاط أو بضربة قاضية، ولا ينتقص من قيمتها أيضا التجريح المتبادل الذي سادها ولا غياب البرامج عنها.. مناظرة «موسى – أبو الفتوح» كانت أيضا عملا تلفزيونيا بُذل فيه الكثير من الجهد، ومع ذلك فهناك أربع ملاحظات لا بد من ذكرها: الملاحظة الأولى أن هذا عمل كان يجب على تلفزيون الدولة أن يتصدى له قبل غيره، حتى وإن كان من حق القنوات الخاصة ومن واجبها أيضا أن تقوم به.. الثانية هي الاستغلال التجاري المعيب في عرض الإعلانات التي استغرق بثها في أحد الفواصل نحو نصف ساعة، بالمخالفة لكل القواعد المتعارف عليها في العالم.. أما الملاحظة الثالثة فهي أن المناظرة استغرقت وقتا أطول من اللازم بكثير، خاصة في مقدمتها، رغم أنه كان من الضروري شرح آلياتها لمشاهدين يمرون بالتجربة لأول مرة.. والملاحظة الرابعة أنها انتهت في ساعات الصباح الأولى، وهو وقت متأخر للغاية حتى ولو كان اليوم التالي لها إجازة رسمية، وحتى ولو كان هذا قد أصبح، للأسف، عرفا معتادا في الشاشات المصرية. أهم من هذا وذاك أن المناظرة كشفت عن سقطة شائنة تتعلق باختيار المرشحين للمشاركة فيها دون غيرهم.. كانت الجهات الأربع المنظمة «دريم، أون تي في، المصري اليوم، الشروق» قد أمطرتنا في الأسابيع السابقة بإعلانات تفيد بأن هناك سلسلة من المناظرات ستذاع في ثلاثة تواريخ محددة، الأمر الذي توقعنا معه أن يشارك فيها عدد قد يصل إلى ستة من المرشحين، إلا أن الموعد الأول ألغي فجأة بحجة أحداث العباسية، ثم اختزل الموعدان التاليان في مناظرة واحدة بين «موسى» و»أبو الفتوح» دون اعتذار أو إبداء أسباب من الجهات المنظمة تؤكد بها احترامها للرأي العام.. لذلك سرعان ما أثير السؤال: لماذا هذان المرشحان بالذات؟.. كانت إجابة المنظمين أن معظم استطلاعات الرأي التي أجريت في مصر وضعتهما في مقدمة المرشحين الذين لديهم فرصة للفوز.. لكن هذه الاستطلاعات، كما يعلم الكل، لا تحظى بمصداقية كافية، رغم تقارب نتائجها، ومن ناحية أخرى فهناك مرشحون آخرون لا يمكن إغفالهم، كما أن الجهات المنظمة ذاتها تعتبرهم مرشحي قمة «شفيق وصباحي ومرسي مثلا» وإلا ما اهتمت بأخبارهم يوميا على نحو ما تفعل.. لماذا استبعد هؤلاء رغم أن في هذا الاستبعاد تأثيرا على المنافسة الانتخابية وإهدارا لمبدأ تكافؤ الفرص؟.. هل اعتذروا هم عن عدم المشاركة أم إن المنظمين استبعدوهم؟.. من حقنا أن نعلم.. تقول حملة د.العوا إنه وافق على خمس دعوات للتناظر من قنوات تلفزيونية، لكن المرشحين الإسلاميين رفضوا، وتقول حملة «صباحي» إنه قبل مناظرة أي مرشح، لكنهم جميعا رفضوا، بمن فيهم «أبو الفتوح ومرسي»، وتقول حملة خالد علي إنه طلب مناظرة «موسى ومرسي وأبو الفتوح وشفيق» وإنهم رفضوا كذلك، وتقول حملة «مرسي» إنه اعتذر عن جميع المناظرات التلفزيونية لأنه لا يوافق على فكرة المناظرات «بالطريقة الأمريكية القائمة على تجريح مرشح على يد آخر، ويعتقد أنها مخالفة لثقافة المجتمع المصري»، وتتهم حملة أبو العز الحريري قنوات تلفزيونية بكونها عرضت عليه التناظر ثم تراجعت.. لكن الجهات الأربع المنظمة لم تقل لنا ما هو الجانب الآخر من الحقيقة في هذا كله؟.. إذا كان البعض قد اعتذر حقا، فلماذا لم يعلن هذا الاعتذار حتى نثق في مصداقية المنظمين، ونكتشف الأبعاد الخافية عنا في الكواليس السياسية، ونتعرف بشكل أفضل على شخصية المرشحين أنفسهم ومدى جرأتهم أو جبنهم في المواجهة؟ إلا أن هذا كله ليس هو ما يزعج في مناظرة الخميس الماضي.. الاستفزاز في هذه المناظرة هو وصفها بكونها «نجاح للثورة» وبكونها «دليل على حجم التحول في مصر»، في حين أن مرشحي الثورة المؤمنين بدولة مدنية حديثة قد اختفوا من المشهد أو كادوا.. د.أبو الفتوح واحد من مرشحي الثورة، نعم.. لكنني قلت في مقال الأسبوع الماضي إنه بالرغم من كونه مرشحا وسطيا فإن مرجعيته الدينية تثير المخاوف، كما أن علاقات الإخوان المسلمين به ستؤدي إلى مشكلات في حال نجاحه.. إذا احتد الخلاف معه سيحدث صدام بين مؤسسة الرئاسة والسلطة التشريعية، وإذا آثروا التوافق فسوف يعني هذا أن تيار الإسلام السياسي قد هيمن على القبتين، قبة البرلمان وقصر القبة.. مرشحو الثورة الآخرون غابوا عن المناظرة.. وهم المسؤولون عن هذا الغياب، بعد أن عجزوا عن الاتفاق على التنازل لواحد منهم، ومضوا غير عابئين بتفتيت الأصوات في ما بينهم.. هذه ليست أخلاق الثورة كما عشناها في ميادين التحرير، ولا هي السلوك الذي يتوقعه المؤمنون بها من ممثليهم.. أمام هؤلاء المرشحين أيام معدودة حتى يكفِّروا عن هذا الجرم، وينسحبوا قبل إجراء الانتخابات لصالح الأقرب بينهم إلى الفوز، ويعلنوا ضم صفوفهم جميعا خلفه، وإلا فلينتظروا حسابهم من التاريخ ومن الأمة.