داخل بيته القريب من قوس النصر، في قلب العاصمة الفرنسية باريس، التقت «المساء» عبد الحليم خدام.. أكثر العارفين بخبايا الملف السوري، فهو الذي لازم الرئيسين حافظ وبشار الأسد كنائب لهما ووزير لخارجيتهما، مكلفا باثنين من أكثر ملفات الشرق الأوسط خطورة وغموضا: الملف اللبناني والملف العراقي. اعترف عبد الحليم خدام، فوق كرسي «المساء»، بأسرار علاقته بنظام الأب والابن «المغرق في الفساد والاستبداد»؛ حكى عن هوس حافظ الأسد بتوريث الحكم لأفراد عائلته، وكيف سعى بشار الأسد إلى مجالسته، حيث بدأ ينتقد نظام والده، وهو يناديه «عمي عبد الحليم». كما استحضر اللحظة التي وجد نفسه فيها رئيسا للجمهورية بعد وفاة حافظ الأسد، وكواليس تعديل الدستور ليصبح بشار رئيسا للبلد، وكيف قرر الخروج من سوريا والتحول إلى أكبر عدو لنظام قال إنه يخطط لإقامة دويلة في الساحل، حيث الأغلبية العلوية التي ينتمي إليها آل الأسد. كما تحدث عبد الحليم خدام عن علاقته بالحسن الثاني والمهدي بنبركة وكيف تحول الموقف السوري من قضية الصحراء وقال بأن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لم يتخلص من فكر سالفه هواري بومدين. - تم استقبالك مرارا من قبل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، كيف كنت تنظر إلى هذا الرئيس الاستثنائي في المنطقة العربية؟ بصراحة، كنا نعتبره رجلا غير سوي، لأنه كانت لديه طموحات غير مبنية على أسس عقلانية، فقد كان يتحدث عن الوحدة العربية، لكن هذه الوحدة -حسب مفهومه- كانت وحدة في السياسة مع ترك النفط جانبا. - ما هو أغرب شيء سمعته منه؟ كثيرا ما جرت نقاشات حادة بيني وبينه، وأنا لا أجامل. وفي هذا الصدد، أذكر أن كثيرا من الرؤساء العرب كانوا، عندما يلتقون بحافظ الأسد، يشكون إليه حدّتي وقلة مجاملتي. - ما هو أطرف موقف حصل لك مع القذافي؟ مرة، كنا نتناقش حول الأوضاع في لبنان، ففاجأني بالقول: يا أبا جمال، أنتم تذبحون الفلسطينيين، فأجبته بانفعال: نحن نحمي الفلسطينيين ونحاول منعهم من السير بأنفسهم نحو الهلاك، أما أنت فتقتل الفلسطينيين واللبنانيين معا، وأضفت: نحن ندفع دمنا لكي نحمي الفلسطينيين، أما أنت فكل ما تفعله هو أنك تدفع بضعة قروش إلى المنظمات الفلسطينية، وتسمي هذا مساعدة. - هل حصل هذا في ليبيا؟ نعم، كنت عنده في ليبيا، ولم يستسغ جوابي هذا وانفعل. وطالما كان القذافي يشتكيني إلى حافظ الأسد. - كان حافظ الأسد يقول لك هذا؟ لا، القذافي كان يشتكيني في حضوري. - هل كنت وحافظ الأسد مقتنعين بأن القذافي هو من قتل الإمام موسى الصدر سنة 1978؟ من الصعب الحسم في الموضوع، فلا حينها ولا الآن توجد معلومات أو وثائق كافية تثبت أو تنفي صحة هذا. الإمام موسى الصدر قبل سفره إلى ليبيا، وبالتحديد يوم سفره، كان في دمشق واتصل بي في منزلي على الساعة الثامنة صباحا، وقال لي إنه ذاهب إلى ليبيا، فسألته عن سبب سفره، وقد كنت خائفا من أن يقتله معمر القذافي، أو يغريه بواسطة المال ويعود متحيزا ضدنا، لأنه كان يشتغل معنا، ونحن حينها كنا في أوج الصراع بلبنان مع القوات اللبنانية، فأجابني بأنه كانت هناك مشكلة بينه وبين الرئيس الليبي فتدخل الرئيس بومدين وحلها، ولذلك تلقى دعوة إلى زيارة ليبيا، وذهب بالفعل. مر يومان، ثلاثة أيام، ثم أسبوع ولم يظهر للرجل أثر، فجاء وفد من قياديي الشيعة في لبنان واجتمعت بهم، وناقشنا موضوع السيد موسى الصدر. أنا، كان موقفي دائما أن أي أجنبي يزور بلدا ما ثم تنقطع أخباره، فذلك يعني أنه تمت تصفيته، لكن الوفد الشيعي لم يكن مقتنعا بهذا، لذلك هبّ أعضاؤه في وجهي وقالوا: كيف تتحدث عن الإمام هكذا؟ فأجبتهم بأني لا أتحدث عن الإمام، بل أتحدث عن اختفاء الإمام. - هل كانوا يعتقدون أنه فقط معتقل لدى القذافي، وأن الأمر لم يصل إلى حد التصفية؟ نعم، هم كانوا يرجحون فرضية كونه مسجونا في ليبيا، لذلك توسلوا حافظ الأسد أن يتدخل في هذا الموضوع، وهو الشيء الذي لم يتوان الأخير في القيام به، فقد بعث وزيرَ الدولة في الشؤون الخارجية، عبد الكريم عالي، إلى معمر القذافي واستفسره، فأجابه القذافي بأن الإمام غادر التراب الليبي بتاريخ معين، وأطلعه على وثائق تفيد بأن الإمام غادر مطار ليبيا باتجاه إيطاليا، وكذلك وثائق من مطار في إيطاليا تفيد بوصول الإمام موسى الصدر إليها؛ وحين عاد مبعوثنا تأكدنا من أن الإمام قد ذهب ولن يعود، وطبعا كان مؤكدا أنه لم يذهب إلى إيطاليا، وأن تلك الوثائق هي وثائق مزورة من طرف استخبارات القذافي. - ما الذي قاله لك حافظ الأسد عندما عاد المبعوث السوري من عند معمر القذافي؟ تشكلت لديه قناعة بأن القذافي قتل الإمام موسى الصدر بالفعل، لكن فيما بعد، قدِم إلى سوريا طلال ناجي، الأمين العام المساعد لأحمد جبريل في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فسألته حول الموضوع على اعتبار أنه كان كثير السفر إلى ليبيا، فقال لي إن الإمام «راح» وأخبرني بأن الأمر سار على النحو التالي: اجتمع معمر القذافي بالسيد موسى الصدر حوالي 5 ساعات، وامتد اجتماعهما إلى حدود الساعات الأولى من الصباح، ثم قال معمر القذافي لمرافقه أن يأخذ الإمام موسى و«يدبره»، وكان القذافي يقصد أن يأخذه إلى الفندق، لكن المرافق فهم «دبره» بمعنى قم بتصفيته. - بمعنى أن الإمام موسى الصدر قُتل عن طريق الغلط؟ هذا ما يفهم من رواية طلال ناجي. - كيف تفاعلتم في سوريا مع انقلاب زين العابدين بنعلي على الحبيب بورقيبة سنة 1987؟ الحبيب بورقيبة لم يكن صديقا لنا، ولم يكن كذلك خصما؛ في تلك الفترة كان بورقيبة قد صار شيخا وغدا حضوره رمزيا، فيما كان رئيس الوزراء هو من يدير تونس. مجيء بنعلي كان مرفقا بشعارات غير شعارات بورقيبة، إذ صار يتحدث عن القومية العربية، وعن التحرير والإصلاحات، لكن لم تنشأ بيننا وبين بنعلي صلات وثيقة. - لماذا؟ لأننا انفتحنا عليه وزرنا تونس عدة مرات، ودعوناه إلى زيارة سوريا، لكنه في كل مرة كان يخبرنا بأنه يعتزم المجيء ثم يعود ليعتذر بعدها، وكان يتحجج بأعذار واهية في الحقيقة، وكنا نلامس أن همه الأوحد والأساسي هو «كيف يمسك تونس بقبضة من حديد»، مثله مثل أي ديكتاتور، وبالتالي ما كان خصما لنا ولكنه لم يكن صديقا أيضا، ففي المؤتمرات القومية العربية كان يسير إلى جانب موقف سوريا، هو والجزائر وليبيا وأحيانا منظمة التحرير الفلسطينية، أي أنه كان يتبنى مواقفنا على مستوى القومية العربية.