تابع قرابة 18 مليون مشاهد فرنسي على القناتين الأولى والثانية المواجهة التلفزيونية، التي جمعت المرشحين للدور الثاني والنهائي لرئاسة الجمهورية الفرنسية. وقبل المقابلة، توعد ساركوزي ب»دك» و»سحق» خصمه مثل بعوضة! وللحقيقة، راودت العديد من أنصار هولاند أو المتعاطفين معه مخاوف وشكوك في قدرته على مواجهة خصم من عادته الطعن من الخلف، الانقضاض على طريقة «البيتبول»، امتهان الكذب وزرع الفخاخ والمقالب في الممرات. لكن هولاند نجح، وكان أول من أخذ الكلمة، في ترسيم مشهد وأسلوب المقابلة، حاملا بذلك التناقض والارتباك إلى قلب استراتيجية ساركوزي. ولأزيد من ساعتين ونصف، أعطى فرانسوا هولاند الدليل على مقامه كرئيس دولة. وجاءت صيغة التمني «أريد كرئيس أن...» التي كررها 19 مرة لتترجم هذا الطموح النهم. أدرك الجميع حينها أن هولاند اجتاز النهر، فيما جرف السيل ساركوزي ! وترسخت قناعة الأغلبية بأن فرانسوا هولاند يبقى السليل السياسي لفرانسوا ميتران، وبأن له الملكة والقدرة على إحداث قطيعة مع تصرفات الغطرسة في التعامل مع المواطنين، القطع مع سياسة إثراء الأثرياء وإفقار الفقراء، عدم الاستخفاف بحقوق الإنسان، وضع حد لممارسة التطبيع مع الفكر العنصري... بكلمة له الملكة على مصالحة فرنسا مع تراثها الإنساني كبلد للأنوار، الإخاء والتسامح. ومع الجولة الثانية من الاقتراع الرئاسي، سدد فرانسوا هولاند الضربة القاضية لخصمه، مساهما بذلك في تعجيل وقوع الفتنة داخل حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية التابع لساركوزي. وخرجت فرنسا البارحة، الأحد، بكل أطيافها الإثنية وأعمارها للاحتفال بالفوز. كعرب، ذكرنا المناخ الذي صاحب هذا الفوز بفرحة الاحتفالات التي رافقت هروب الطاغية بن علي أو سقطة الطاغية مبارك أو علي عبد الله صالح أو الأجواء التي رافقت مظاهرات 20 فبراير. لذا، فإن ساركوزي ونظامه هما أيضا أحد ضحايا الربيع العربي. ومن فضائل الديمقراطية الحقة سقوط الحصانة على الحكام ومثولهم كمواطنين عاديين أمام العدالة. وبالنظر إلى الفضائح التي يجرها ساركوزي خلفه، فمن غير المستبعد أن يمثل يوما بين يدي قاضي تحقيق من أصحاب الحسنات قد يتلذذ في بهدلته ! فماذا سيحفظ التاريخ من ذكره وصنيعه؟ والآن ماذا بعد شامبانيا الفوز، الهتافات والمزامير بمجموع التراب الفرنسي؟ ماذا بعد تشطيب ساركوزي من قصر الإيليزيه؟ المؤكد أن سونونو واحد لا يصنع الربيع كما يقول المثل. لأن السونونو، هولاند، محاط للأسف بصقور تتحلى بنفس شراسة صقور ساركوزي. يأتي على رأسهم مانويل فالس، مستشاره الخاص، الذي في حالة تعيينه على رأس وزارة الداخلية، سيكون نسخة منقحة لكلود غيان. كالعديد من الفرنسيين المتحدرين من أصول أجنبية (فهو سليل عائلة إسبانية تنحدر من برشلونة)، يكن للأجانب عداء صريحا ووديا. فقد اقترح وضع نظام «كوتا» (حصص)، للأجانب. إلى تشدده في ملف الهجرة، فهو أحد الدعامات الاشتراكية القوية للدولة العبرية بفرنسا. لكن صورة هولاند ذات الألوان الطبيعية قد تبهت بسرعة في حالة ما إذا لم يوضح الرئيس الجديد مقاصده النهائية في ملفات حيوية مثل ملف الهجرة وتصويت الأجانب في الانتخابات المحلية. فقد اتضح أن هولاند صحح مواقف الحزب الاشتراكي لجهة التشدد، وذلك على خلفية النتيجة التي حصلت عليها مارين لوبين. فقد صرح لإحدى القنوات التلفزيونية بأن عدد المهاجرين اللاشرعيين جد مرتفع. كما أنه يطمح إلى الحد من الهجرة الاقتصادية. أما فيما يخص تصويت الأجانب في الانتخابات المحلية، فإن المشروع قد يستغرق أعواما وربما لن يرى النور يوما! ما يتهدد مشروع فرانسوا هولاند، على الأقل في النقطة التي تخص المهاجرين الشرعيين، هي أن يصبح رهينة فزاعة اليمين المتطرف. ملف آخر لا يقل أهمية عن بقية الملفات، هو ملف السياسة الخارجية الجديدةلفرنسا، وبالأخص تجاه دول المغرب الكبير والعالم الإفريقي والعربي. المطلوب من فرنسوا هولاند احترام رغبات الشعوب وتحفيز الأنظمة على السير في النهج الديمقراطي. المطلوب منه مراجعة سياسة البيعة العمياء لإسرائيل واتخاذ مواقف متوازنة ما بين المغرب والجزائر والوقوف بحزم في وجه نظام الطاغية بشار الأسد، وطي صفحة الدعم اللامشروط للأنظمة الإفريقية الفاسدة، التي قوى من شوكتها ساركوزي. المهم أن الأوراش التي تنتظر فرانسوا هولاند عديدة ومعقدة. ولتدبيرها، توعد بنهج أسلوب جديد وعقلية جديدة تقوم على تخليق الحياة السياسية، الإقرار بالقيم الإنسانية، رد الاعتبار لقيم التسامح إلخ... فهل سيكون رئيس التغيير كما تعهد بذلك؟ سترينا الأيام «حنة يديه».