خلال النصف الأول من عقد الثلاثينات، كان الطابع المميز لكفاح الحركة الوطنية المغربية سعيها إلى الحصول على سند تكتل سياسي فرنسي يناصر أطروحاتها الوطنية، ويحمي ظهرها من تعسف سلطات الحماية التي دخلت الحركة الوطنية معها مرحلة اختبار القوة. ويلاحظ أن العمل الوطني الخارجي مضى يعمل خلال هذه الفترة تحت حجاب السرية في الوقت الذي ظل فيه الكفاح الداخلي يتابع عمله في ظل تنظيمات وتشكيلات سرية. كما تميز الكفاح الداخلي بتسلم الوطنيين المثقفين بالفرنسية زمام القيادة بعد تبني خيار التوجه إلى مخاطبة الرأي العام بفرنسا لجلب تأييده. في هذه الفترة لمعت بين هؤلاء المثقفين أسماء داخل الحركة الوطنية بعضهم عاد من فرنسا إلى المغرب مثل الحاج أحمد بلا فرج ومحمد بن الحسن الوازاني وعمر بن عبد الجليل وآخرون. -أحمد بلا فرج- سبق الحاج أحمد بلا فرج الذي كان أنهى دراسته بباريس واستقر بها رفقاؤه الوطنيين إلى الاتصال بجناح اليسار الفرنسي بالبرلمان لتحسيسه بالقضية الوطنية، كما سبق محمد بن الحسن الوازاني إلى ربط علاقات مع الحزب الاشتراكي اليساري الفرنسي. ومنذ اندلاع حرب الريف بقيادة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، أخذ أقصى اليسار الفرنسي يتعاطف مع حركة الريف. وكان يتألف من شيوعيين ونقابيين ثوريين وحتى فوضويين ومعارضين مؤيدين لحركة الريف، ومن بينهم الزعيم الشيوعي «مارسيل كاشين» والنائب الشيوعي, «جاك دوريو» وعدد من السياسيين الفرنسيين الذين كانوا ينادون بإيقاف بلدهم حرب الريف والتعجيل بالدخول في المفاوضات مع قيادات الحرب الريفية وينعتون هذه الحرب بالاستعمارية. وفي مجلس النواب خطب «دوريو» يوم 7 مايو سنة 1928 قائلا: «إن الحزب الشيوعي يؤيد الجلاء العسكري الفرنسي من المغرب، ويتبنى شعار: «المغربُ للمغاربة لا لفرنسا». وبعد ظهور الحركة الوطنية المغربية في شكلها السياسي سنة 1930، كان موقف أقصى اليسار الفرنسي يتلوَّن حسب الظروف واختلاف الاتجاهات. الشيوعيون كانوا عندما يشتركون في الحكم يرفضون كل تفاهم مع الوطنيين المغاربة، وعندما يكونون في المعارضة يرتفع صوتهم داخل البرلمان محتجين على قمع الوطنين ومندِّدين بالسياسة الاستعمارية المطبقة في المغرب. أما اليسار المعتدل خاصة في النزعة الاشتراكية المتحررة فقد كان من المفروض أن يتعاطف مع الحركة الوطنية المغربية التي كانت تطالب بتطبيق أكثر عقلانية لبنود الحماية وبالحكم الفرنسي المباشر، ذلك أن زعيمه «جان جوريس» كان في فترة إعداد تنظير لحكم الحماية سنة قبل فرضها يروج لحماية تبقي على سيادة المغرب الداخلية، وأصبح يدعو إلى الأخذ بعين الاعتبار وضعية المغرب الخاصة. وفي إحدى خطبه سنة 1911 صرح قائلا: «إن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الوضع المغربي المتميز، وألا نطبق إلا الحد الأدنى من الحماية المكشوفة. ومع ذلك فإن الاشتراكيين لم يكن لهم موقف موحد من الحركة الوطنية المغربية، بل لم ينفتح إلا بعضٌ منهم على التعاطف معها، وعارضت أكثريتهم الاتجاه الذي كان يعمل لمساندة الحركة الوطنية، مفضلة عليه إعطاءَ المغرب وضعية في الاتحاد الفرنسي ومنحَ إصلاحات جزئية للمستعمرات والمحميات. وهكذا ظل السند الممنوح للحركة الوطنية من هذه الكتلة مقصورا على أفراد كانت لهم الشجاعة الأدبية التي خسروا بها صداقات وزمالات فرنسية، ولكن أكسبتهم تخليد أسمائهم في المغرب وسائر البلدان المضطهدة كطلائع نضال وقدَّمتهم كوجه آخر مشرف لفرنسا الحرة الوفية ولمبادئ ثورتها. روبير لونكي ومن أبرز المناضلين الاشتراكيين الفرنسيين الذين ساندوا الحركة الوطنية روبير جان لونكي النائب الاشتراكي المنتمي إلى سلك المحامين وابن النائب الاشتراكي جان لونكي حفيد كارل ماركس. وكان نائبا في مجلس النواب الفرنسي حيث كان يشغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية. وكان المحامي روبير لونكي هذا يتردد على المغرب ليمارس أمام المحكمة الفرنسية للدفاع عن وطني مغربي هو الدكتور أحمد الجبلي العيْدوني الذي كانت سلطات الحماية اعتقلته، فتولى هو الدفاع عنه أمام المحكمة الفرنسية. ومكنته زيارته للمغرب من معاينة سياسة الحماية في الميدان بالمغرب، فخطرت له فكرة فضح سياستهم على أعمدة مجلة كان يصدرها شهريا باللغة الفرنسية. وقد كانت مقروءة من لدن نخبة تقدمية مغربية. وفي البداية، عندما صدر أول عدد من هذه المجلة، وذلك في شهر يوليوز 1932 (أي بعد 16 شهرا خلت على صدور الظهير البربري)، انقسم الاشتراكيون بين مؤيدي خطة المجلة ومعارضيها. وحظيت مجلة «مغرب» أيضا بتأييد النائب البرلماني جورج موني الذي انضم إلى لجنة رعايتها وكان أيضا من بين محرريها. وكان جورج موني يشرف على جريدة «الحياة الاشتراكية» التي كانت من أكبر جرائد اليسار الفرنسي، وطلبَ من الشباب المغربي في هذه الجريدة أن ينخرط في الاتحاد الاشتراكي في خطاب ألقاه في الذكرى السنوية لصدور مجلة «مغرب»، وكان توجه إلى الوطنيين المغاربة باقتراح مفاده أن ينخرطوا في الحزب الاشتراكي الفرنسي اعتقادا منه أن انتماءهم إلى هذا الحزب سيدحض التهمة التي تصفهم بها الحماية من أنهم ليسوا سوى عين موسكو أو يد ألمانيا. ولم يقبل محمد بن الحسن الوازاني هذا المنطق المعوج، ورفضه باسم الحركة الوطنية على صفحات جريدة «عمل الشعب». وكان عنوان مقال الوازاني: «هل من الخير للشعوب المستعبدة أن يكون لها مذهب سياسي غير مذهب تحرير نفسها وتمسكها بما يجعلها ذات كرامة تساوي كرامة الآخرين»؟ وبذلك رفضت الحركة الوطنية أن تؤدي لليسار -مقابل سنده لقضيتها- ثمنا من انتمائها وتبعيتها له، مفضلة أن تحتفظ بشخصيتها واستقلالها، وأن تبقى بعيدة عن معارك وصراعات الآخرين.